يوم الإثنين الموافق 20 ديسمبر، ألقى الأكاديمي السوري المعروف، الدكتور صادق جلال العظم في مركز الشيخ ابراهيم أل خليفة، في مدينة المحرق بالبحرين، محاضرة تحت عنوان إسلام وإرهاب: مقاربات متنوعة. وقد تناول في محاضرته تقييما للأحداث التي عصفت بالمنطقة منذ 11 سبتمبر 2001، وتأثيرها على التطورات اللاحقة في العالم.
والواقع أنني شخصيا وجدت نفسي مدفوعا لحضور هذه المحاضرة، لعدة أسباب منها عنوان المحاضرة ذاته، الذي رأيته مثيرا ومحرضا. ومنها أيضا حرصي الشديد على الإستماع إلى الدكتور العظم نفسه. فقد تعرفت على منهجه في السجال والتفكير منذ فترة مبكرة في حياتي. وكانت أول معرفة لي به قد أخذت مكانها عند قرائتي لموضوع نشره بعد نكسة حزيران بفترة قصيرة في مجلة دراسات عربية بعنوان: "معجزة ظهور العذراء وإزالة آثار العدوان". وكان يراعه في تلك المقالة صوتا مدويا ضد التشويه والزيف والعبث بعقول الناس، وكان عقلانيا وموضوعيا في تبضيعه وتحليله. وقرأت معه بعد ذلك مقالة بعنوان مأساة إبليس، ووجدت فيها ذات النفس السجالي الذي وجدته في مقالته الأولى، رغم أنني اكتشفت لاحقا أن ما ورد في تلك المقالة في جزء كبير منه هو نقل مجتزأ لما ورد في رائعة الروائي الروسي الكبير، ديستويفسكي الموسومة بـ الأبله. وقرأت له بعد ذلك نقد الفكر الديني، الذي صدر عن دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت. في نهاية الستينيات، وقد أثار صدوره في حينه زوبعة كبيرة، وجرت محاكمة المؤلف ودار النشر. وتتالت قراءاتي له في عدد آخر من الكتب كدراسات يسارية عن المقاومة الفلسطينية، وذهنية التحريم الذي دافع فيه عن موقف سليمان رشدي، ودفاعا عن المادية…
ومع أنني أختلفت في السابق مع أطروحات الدكتور العظم في كثير من قراءاته ومواقفه وتحليلاته واستنتاجاته، لكنني كنت أكن احتراما وتقديرا لجرأته وشجاعته ومنهجه في التحليل. وكنت دائما معجبا بطرقه السجاليه. وحتى عندما شاهدته في قناة الجزيرة الفضائية، في برنامج الإتجاه المعاكس وهو يحاور الشيخ القرضاوي، ووجدته يترنح أمام اللكمات العنيفة التي كان الشيخ يكيلها له، قلت لنفسي إنه ربما يكون غير معتاد على الظهور للجمهور في برامج كهذه، أو أنه ربما لم يستعد لذلك بما فيه الكفاية. وقد منحته عذرا لبعض الشطحات التي تحفل بها أراؤه. لكن ما حدث في محاضرة البحرين التي أشرت لها كان شيئا آخر. شيء مختلف جدا. فقد تنازل الكاتب الكبير، عن أسلوبه في السجال والتحليل، بل وتخلص من قاموس مفرداته. فلم تحضر المادية الجدلية ولا التطور التاريخي، ولا حتى الصراع الطبقي أو التحليل الإجتماعي. ونزل اليساري الشهير إلى مستوى الإعتراف بزعامات العشائر والطوائف كممثلين عن الغالبية من الجمهور، مختزلا الوحدة الوطنية في مطالبة السنة بالإعتذار للشيعة عن قتل الحسين بن علي، والتخلي عن أفكار ابن تيمية، أما الشيعة فطالبهم بالتخلي عن ولاية الفقيه. هكذا اختزل الإستراتيجي والسجالي الكبير مسألة ما دعاه بالإنسداد التاريخي بحلول مسطحة، تقوم على أساس التسليم بالمحاصصات القائمة على أسس الإثنيات والطوائف والعشائر والقبائل.
تحدث السجالي العظم عن حوادث سبتمبر عام 2001، والتزم بوجهة نظر الإدارة الأمريكية، ودافع عنها، رافضا نظرية وجود مؤامرة جملة وتفصيلا، متهما العرب والمسلمين في الإغراق بالتخيل، والخضوع لفكرة المؤامرة. وقال إن مثل هذه الأقوال تذكره بما يردده العرب من مؤامرات الصهاينة والإستعمار على العرب، مدللا على ذلك بجملة من الأمثلة، كالعدوان الثلاثي، الإسرائيلي البريطاني الفرنسي عام 1956 على مصر، وحرب حزيران، عام 1967، نافيا بحدة أن تكون تلك مؤامرات بحق العرب، وإنما هي مواجهات وحروب فشل فيها العرب. والواقع أنني شخصيا أصبت بخيبة أمل كبيرة، من المقدمات التي بدأ بها والتحليل والنتائج التي توصل لها. لقد غاب التحليل العلمي في تلك المحاضرة، وغابت التعريفات والمقدمات، وغاب السياق الرصين.
فالمؤامرة، بتعريفها البسيط تعني اتفاق أكثر من طرف، بشكل سري، على أن يلحقوا الأذى مجتمعين أو فرادى بطرف أو أطراف. وقد لا نجد في العصر الحديث حادثا ينطبق عليه هذا التعريف أكثر مما شهده التحضير للعدوان الثلاثي على مصر. فقد اجتمع وزراء دفاع فرنسا وبريطانيا وإسرائيل في باريس، وقرروا سرا، ووضعوا توقيعاتهم على ذلك، أن تبدأ إسرائيل باحتلال شبه جزيرة سيناء، حتى تصل إلى شرق القناة، وعندها تتذرع كل من فرنسا وبريطانيا بحماية قناة السويس كممر دولي، وتوجه إنذارا إلى إسرائيل ومصر مطالبة إياهما بالإبتعاد عن ضفاف القناة عشرة أميال، وتوافق إسرائيل على ذلك. وكان المتوقع والبديهي أن ترفض الحكومة المصرية ذلك، كونه يمثل عدوانا على أراضي وسيادة واستقلال مصر. وكان ذلك هو ما حصل فعلا. وأيا تكن النتائج التي ألت إليها الحرب، فقد كانت تلك مؤامرة بالمعنى الكامل للمؤامرة، بحيث يحق وصفها بـ "المؤامرة الكاملة" كما شخصها الأستاذ محمد حسنين هيكل.
وفي السنتين الآخيرتين، وغير بعيد عنا الذرائع التي اصطنعتها الإدارة الأمريكية لاحتلال العراق، والتي تمثلت في حيازة أسلحة الدمار الشامل، والتعاون مع القاعدة. وقد ثبت بطلان تلك الذرائع وتكشف زيفها، فإذا بتلك الإدارة تنتقل إلى ذرائع أخرى، كالمقابر الجماعية ووجود نظام ديكتاتوري يقمع شعبه ويستخدم الأسلحة الكيماوية بحق هذا الشعب. والثابت أنه لم يجر التحقق من تلك الذرائع الأخيرة حتى يومنا هذا من جهات مستقلة ومحايدة. وبالمثل، نحيل الكاتب الدكتور، لمذكرات رئيس الوزراء الصهيوني، موسى شاريت ليطلع عن الخطط الصهيونية لحرب حزيران، والتي اتخذت منحا تآمريا بدأ مباشرة، بعد فشل أهداف عدوان السويس، وتواصلت بشكل سري، حتى صبيحة الخامس من حزيران. كما نحيله إلى كتاب بالسيف: أمريكا وإسرائيل في الشرق الأوسط، للكاتب الأمريكي، ستيفن غرين الصادر بالعربية عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، لبنان، ففيه الكثير من المعلومات التي لا يمكن وضعها إلا في خانة التآمر على الأمة العربية ومحاولة قهر إرادتها.
لقد أصر العظم على نفيه احتمال وجود تأمر أمريكي صهيوني، للتحضير للقرن الأمريكي الجديد، قرن الغطرسة والهيمنة وإعادة رسم خارطة المنطقة العربية. وحتى عندما واجهه بعض من جمهور الحضور بتقارير أمريكية وأوروبية فنية تشير باستحالة قيام مجموعة من الطيارين المتدربين الشباب بمثل تلك العملية. وكذلك باستحالة تبخر الطائرة التي هاجمت البنتاجون، في سرعة لا تكفي علميا، لحدوث ذلك، لم يجب واكتفى بالقول بأن تلك الطروحات هي من خيال منتجيها. وتساءل كيف يمكن أن يتعامل هؤلاء الشباب مع أمريكا، وهم المعبؤون بثقافة إسلامية ضدها، وكيف يمكن تصديق أن يقوم ابن لادن، المعروف بعدائه للأمريكيين بتفنيذ مخطط تآمري أمريكي. ومثل هذا السؤال رغم ما يبدو عليه من منطقية ووجاهة ينسى أن التاريخ الإنساني حافل بصور مماثلة. أو لم يقم بشارة سرحان في نهاية الستينيات باغتيال السناتور كنيدي، لصالح قوى الضغط الأمريكي اعتقادا منه أن بذلك يتخلص من عدو للفلسطينيين؟. وفي قضية شقيقه الرئيس كنيدي، قتل الشخص الذي اغتال الرئيس على يد متطوع ما لبث هو الآخر أن قتل، وقتل الشخص الثالث، وضاعت قضية مصرع الرئيس حتى يومنا هذا. وقائمة الأمثلة في تاريخنا العربي وتاريخ العالم بأسره، وخاصة فيما يتعلق بالمؤامرات والدسائس السرية كبيرة وطويلة.
اعتبر العظم في محاضرته الإسلام مسئولا عن تلك الحوادث. وبرر بذلك التدخل الأمريكي في المنطقة، بما في ذلك سلوك الصهاينة في فلسطين، واحتلال الأمريكيين للعراق. وتناسى الثوري اليساري، الذي دافع عن شعب فيتنام، ومقاومة شعوب الهند الصينية للعدوان الأمريكي، حملات التنكيل والإبادة والتشريد لشعب الفلوجة، ولم يرى في استخدام الأمريكيين لقنابل تزن الواحدة منها ربع طن لقصف الأحياء الآمنة في مدينة الموصل، ما يثير غضبه واستنكاره. وحين سألته عن حملات التنكيل التي يمارسها الأمريكيون بحق الشعب العراقي في الرمادي وسامراء وتكريت وكركوك وبلد وهيت والمشاهدة وبغداد، أجاب للأسف بصلف أنه عاش في بيروت أثناء الحرب الأهلية، وأنه شهد بأم عينيه الدمار والخراب الذي لحق بها أثناء الحرب، وأنه أمام مشاهداته تلك أصبحت لديه مناعة قوية، ولم تعد مظاهر القتل والدمار والتشريد تثيره كثيرا.
لقد قال العظم في محاضرته أشياء كثيرة تستحق استعراضها والرد عليها في أحاديث قاديمة، لكن أكثر ما صعقت له كثيرا، كان استماعي له وهو يتحدث ببرود وعدم اكتراث عن أرواح الأبرياء من المدنيين والعزل، باعتبارهم قرابين للديمقراطية المنتظرة. وتساءلت بيني وبين نفسي عن أية ديمقراطية وأي تقدم ومستقبل يتحدث هذا المفكر الذي شغل الدنيا لفترة طويلة. كيف يمكن أن يبنى ما هو إنساني وأخلاقي على جثث وجماجم العراقيين. هل كان العظم حقا سجاليا بارعا فيما مضى، أم أنه زمن السقوط والإنهيار، أخذ معه كل ما هو جميل في معتقداتنا وأفكارنا، وبضمنها فكره السجالي المتميز، أم أنني شببت عن الطوق، وأصبحت أميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود.