في يومي 11 و12 من نوفمبر الجاري سوف تشهد البحرين عقد مؤتمر ما يعرف «بمنتدى المستقبل« في اطار المبادرة التي أطلقها الرئيس الامريكي بوش وبعض قادة مجموعة الدول الثماني في سي آيلاند بجورجيا بالولايات المتحدة في يونيو 2004م، والهدف المعلن لهذه المبادرة هو «شراكة من أجل الديمقراطية والتقدم والمستقبل المشترك مع منطقة الشرق الاوسط الكبير وشمال افريقيا« وفيها ستقوم مجموعة الدول الصناعية الكبرى بتقديم الدعم المالي في سبيل الاصلاح والمشاركة وتعزيز الديمقراطية وحقوق الانسان وسيادة القانون وتمكين المرأة سياسيا واجتماعيا حسب الاهداف المعلنة التي يجرى الترويج لها اعلاميا ودعائيا،
والى جانب هذا «المنتدى« سوف يعقد مؤتمر موازٍ في يومي 7 و8 من الشهر نفسه يشارك فيه عدد من ممثلي مؤسسات المجتمع المدني ورجال الاعمال الذين سيقدمون رؤيتهم وتوصياتهم حول الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي الى قادة الدول الثماني، ونظرا إلى طبيعة وحساسية هذه المؤتمرات كان متوقعا لها ان تخلق ردود فعل متفاوتة ومتضاربة بين القوى الرافضة والمؤيدة لها. وفي اطار اختلاف وجهات النظر حول هذه المسألة أصدر التجمع القومي الديمقراطي بيانا هاما أوضح فيه أسباب رفضه مثل هذه الفعاليات التي تحيط بها الكثير من الشكوك، وان هذا الموقف نابع بالاساس من الرفض المبدئي لمشروع الشرق الاوسط الكبير الذي طرحته الولايات المتحدة الامريكية وحاولت تسويقه بكل السبل، من هنا جاء الموقف الرافض له ولكل افرازاته الخطيرة الحاصلة فعلا والمتوقعة مستقبلا. لأنه باختصار يمثل الوجه السياسي والاقتصادي للعدوان العسكري الامريكي الصهيوني على دول المنطقة، «ومشروع المستقبل« هذا هو في حقيقة الامر طبعة جديدة «منقحة« للمشروع الاقتصادي للشرق الاوسط الكبير بعد ان أدخلت عليه الولايات المتحدة بعض «التحسينات« الشكلية تتعلق بالاسم ولا تطول الجوهر، بعد ان تعرض المشروع المذكور لهجوم ورفض واسعين من قبل الشارع العربي، لذا جاءت محاولة الالتفاف على هذا الرفض عبر زيادة جرعات الدعاية والتضليل وتأكيد مزاعم الشراكة وادخال الاصلاحات الديمقراطية وإفساح المجال أمام بعض مؤسسات المجتمع المدني لتلعب بعض الدور المحدود والمرسوم سلفا في هذه اللعبة الامريكية، في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة كما هو مخطط بالاصل الى تحقيق أهدافها الحقيقية في شرعنة نزعتها العسكرية الامبريالية، ومحو الهوية العربية للمنطقة والترويج للثقافة والقيم الامريكية، وفتح المجال للتغلغل الصهيوني في الجسد العربي، وتكمن خطورة هذه المشاريع التي يجرى تمريرها تحت غطاء المبادرات المدنية ومحاولات ادماج منظمات المجتمع المدني، في انها تسعى الى تجميل وجه الوحش الامريكي الذي كشر عن أنيابه لابتلاع المنطقة وخيراتها، حسب وصف بيان التجمع القومي الديمقراطي، كما تبرز الخطورة أيضا في استغلال تعطش هذه المنظمات المدنية الى نيل حقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتطلعها الى بناء ديمقراطية حقيقية وتعزيز مبادئ حقوق الانسان في صراعها مع أنظمة الحكم في دولها، وهو ما يعني في الواقع تقديم الاغراءات لهذه المؤسسات وتشجيعها للاستقواء بها على حكوماتها وجعلها احتياطيا مضموما في لعبة المصالح والابتزاز التي تمارسها الدول الكبرى وفق الزمان والمكان اللذين تحددهما، وما يزيد من قلقنا ويضاعف مخاوفنا هو ان من يتصدى للتحضير واقامة «المؤتمر الموازي« ينطلق من قناعة وجود بعض «الجوانب الخيرة« في السياسة الامريكية التي يمكن الاستفادة منها وتوظيفها في خدمة القضايا الوطنية والقومية على حد زعمهم! وهو ما يكشف عن فهم سياسي قاصر يفتقر إلى الرؤية الصحيحة في كيفية التعامل مع مثل هذه المشاريع وأهدافها الخطيرة وهو ما يلحق الضرر بمجمل القضايا الوطنية والقومية. وقد حذر التجمع القومي الديمقراطي في بيانه الأخير من النتائج السلبية لهذه القراءات الخاطئة للواقع السياسي، لأنها قراءة مأخوذة بالأوهام السياسية وربما هي غارقة في نشوة كاذبة حول امكانية تحقيق بعض الانجازات أو المكاسب الحزبية الصغيرة تحت تأثير أو تخدير شعارات الاصلاح والديمقراطية التي ترفعها الولايات المتحدة الامريكية كذبا وزورا. ولا ندري كيف فات على هذه القوى والشخصيات الوطنية «المتحمسة جدا« بكل ما لديها من حس وطني لا جدال فيه وبكل ما تملكه من تجارب نضالية غير قليلة، نقول كيف فات عليها ان هذه «الكرنفالات« التي تقام سنويا لا علاقة لها بالديمقراطية وقيم الاصلاح وحقوق الانسان كما تصوره الحملات الدعائية المصاحبة لها بل ان الامر لا يخرج عن كونه مصالح و«أجندات« وحسابات دولية واقليمية، وان ما نراه ليس سوى اضاءة صاخبة للمسرح السياسي استطاعت من شدتها للأسف ان تعمي بصر البعض وتحجب الرؤية الصحيحة عنه. وهناك على الطرف الآخر من هو على قناعة تامة وثقة مطلقة بأن كل «مساحيق« الدنيا لا يمكن لها ان تخفي الوجه البشع للولايات المتحدة الامريكية وزيف ادعاءاتها وكذب شعاراتها حول الديمقراطية والاصلاح والتحديث ونحن نرى «النموذج الديمقراطي« الذي تقدمه لهذه المنطقة وشعوبها متجسدا في أقبح صورة في العراق حيث «ديمقراطية القتل« والابادة الجماعية وديمقراطية الدمار والتقسيم الطائفي والعرقي…! وما أفرزه واقع الاحتلال من «صنائع ديمقراطية« خائبة من أمثال «الطالباني والجعفري والحكيم وعلاوي« وغيرهم من «جوقة« المحتل الذين شوهوا العراق وقدموه لقمة سائغة للوحش الامريكي. لذلك نحن سنبقى نحذر من مخاطر الانزلاق في هذه «الألاعيب الامريكية« ومحاولات زج مؤسسات المجتمع المدني فيها عبر اشراكها في هذه المشاريع المشبوهة التي تمهد السبل أمام الدول الكبرى لاختراقها بما يخدم مصالحها. فقد كنا نقول دائما ونعتقد ان مؤسسات المجتمع المدني في دولنا لن تنمو ولن ترى الازدهار الا اذا تخلصت من هيمنة الحكومات وقبضتها الحديدية وكنا نعتقد ومازلنا ان الحكومات سوف لن تسمح لهذه المنظمات بالاستقلالية بشكل طوعي، لذلك كله كنا نطالب هذه المؤسسات والمنظمات المدنية بأن تناضل من أجل حريتها في التنظيم والحركة لتكون بذلك قادرة على شد المجتمع معها الى أعلى وخلق أول وأهم شروط التحول الديمقراطي النابع من الداخل، فهل كنا ندعو الى حرية واستقلالية هذه المنظمات لكي ندفع بها الى قبضة الولايات المتحدة الامريكية ومشاريعها الاستعمارية؟ وهل من المقبول ان تتخلى المؤسسات المدنية عن مواقعها وأدوارها الحقيقية وتتحول الى شاهد زور على عملية الخداع والتضليل التي تقوم بها واشنطون وحلفاؤها لتكريس هيمنتها على المنطقة؟ كان من الطبيعي ان نشاهد تحرك المنظمات الاهلية في اتجاه مناصرة القضايا الوطنية والقومية، كما حصل في المغرب العام الماضي عندما عقد «منتدى المستقبل« على أرضه حيث شهدت مدينة الرباط تظاهرات حاشدة شارك فيها آلاف المغاربة من أعضاء جمعيات المجتمع المدني من صحفيين ونقابات وجمعيات حقوقية وغيرها وقد رفعوا شعارات مناهضة لعقد «منتدى المستقبل« والموازي له. وشعارات تندد بالسياسة الامريكية ورافضة الديمقراطية على الطريقة الامريكية التي نراها من خلال ما يجرى في العراق وفلسطين من قتل وتشريد وخراب، وقد اعتبرت المؤسسات الاهلية المشاركة في تلك المظاهرات مؤتمر «منتدى المستقبل« شكلا من أشكال الاستعمار. وقد كانت جمعيات حقوق الانسان هي التي تقود تلك التظاهرات وهذه خطوة لها دلالة ومغزى لا يمكن ان تخطئهما العين، على خلاف ما هو حاصل عندنا! واستنادا الى هذا الفهم لدور منظمات المجتمع المدني ومن دون الدخول في تفاصيل الجانب التحضيري للمؤتمر المتوازي والكثير من الملاحظات والانتقادات التي وجهت الى اللجنة فهذا الامر لا يدخل في صلب موضوعنا طالما نحن معترضون في الاساس ومن حيث المبدأ على فكرة عقد مثل هذا المؤتمر ولكن مع ذلك نريد ان نطرح بعض التساؤلات التي نرجو من الاخوة القائمين على الاعداد لهذا المؤتمر ان يتسع صدرهم لها، من منطلق الهم الوطني والقومي الذي يجمعنا معهم في خندق واحد، ومن منطلق ايضاح الحقيقة التي من حق الناس ان تعرفها: ما هو حجم المكاسب التي يمكن ان تجنيها المؤسسات المدنية من مشاركتها في مثل هذا المؤتمر؟ وما هو الدور الذي يمكن ان تلعبه سوى اصدار البيان ورفع بعض التوصيات التي سوف تضاف الى الركام الهائل من الملفات والتوصيات حول الاصلاح والديمقراطية؟ ثم ما معنى ان توجه الدعوات عبر سفارات الدول لمنظمات ومؤسسات يفترض انها مستقلة وكيف لنا ان نفسر دعوة بعض الاشخاص والقوى التي تتسم مواقفها بالعداء للعرب ولقضاياهم خاصة في فلسطين والعراق؟ ومن اولئك الذين يتباهون ويروجون لاستقبال الديمقراطية والحرية على ظهر الدبابة الامريكية، ومن الداعين للتطبيع والاستسلام مع الكيان الصهيوني؟ فهذه قوى ورموز تروج للزمن الامريكي والاسرائيلي وتدعو الى قبول المستعمر والتماهي معه بحجة التطور والحداثة والديمقراطية! ترى ما هي الحكمة السياسية من وراء مشاركة هذه الشريحة في المؤتمر الموازي؟ وهو الذي سيناقش التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تعانيها دولنا، والتي تعود في مجملها واسبابها الحقيقية الى سياسات الدول الكبرى المعادية لطموحات وأماني شعوبنا، واذا ما اردنا التوقف امام تلك التحديات سنقول انه اضافة الى تحرير المواطن من الجور والاستبداد هناك تحدي تحرير الأرض من الاستعمار في فلسطين ودعم المقاومة المسلحة التي ستتكفل بقبر مخططات ومشاريع هذه الدول الاستعمارية، وهناك ايضا تحدي تحقيق العدالة الاجتماعية ووضع حد للتفاوت في مستويات المعيشة بين الناس. وهناك تحد الوحدة في مواجهة التجزئة التي فرضتها الاستعمار والنزعات الطائفية التقسيمية المتحالفة مع المحتل لتخريب وحدة الاوطان وضرب الهوية الوطنية فيها، وأخيرا هناك تحدي التنمية الشاملة المستقلة في مواجهة العولمة المتوحشة والتبعية للدول الاستعمارية، أليست هذه التحديات المفروضة علينا هي وراء الكثير من الازمات والكوارث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها الدول العربية بعد ان عملت الدول الصناعية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة على اجهاض وافشال كل مشاريع النهوض العربي كما حصل في مصر والعراق؟ أليست الدول الثماني الكبرى هذه هي المسئولة عن العولمة التي يراد لها ان تجتاح كل دول العالم على حساب المصلحة الوطنية والقومية واطلاق يد شركاتها الاحتكارية والعابرة للقارات لتنهب ثروات وموارد الدول العربية؟ ثم أليست الرأسمالية المتوحشة ومنطق السوق هما المسئولان عن الكثير من الآفات الاقتصادية الاجتماعية وعن هذا التفاوت الحاصل بين قلة تتحكم في معظم الثروات وأغلبية تعاني الفقر والجوع والحرمان؟ هل سيرفع المؤتمر الموازي توصياته حول هذه التحديات والازمات التي ترزح تحتها دولنا الى من هو المسئول عن وجودها واستمرارها؟ هل بلغت بنا السذاجة الى درجة انه يمكن ان نصدق ان منطق الحرية والعدالة يتحقق على يد من هو الخصم والحكم؟ لذلك نحن نتوجس من عقد مثل هذه المؤتمرات، ونشك في جدوى مشاركة المنظمات الاهلية فيها، فالنتيجة النهائية لكل ذلك مجرد عبارات وتنظيرات فارغة لا علاقة لها بالواقع السياسي الذي تعيشه الدول العربية، وكلمات سوف تطير في الهواء كالدخان بينما الواقع اليوم يقذف في وجوهنا حقائق مريرة لا تحتمل مثل هذه التسويفات، حقائق تكتبها أنات وصرخات الشعوب المقهورة وتكتبها دماء أهلنا واخواننا في فلسطين والعراق المنكوب بسبب سياسات هذه الدول الكبرى وجرائمها المتواصلة ماضيا وحاضرا.