في خلال الحرب العالمية الثانية، وتحديدا في السنتين الاخيرتين منها، إتخذت القيادة العسكرية الامريكية قرارا بإستثناء مدينة كيوتو اليابانية من حملات القصف الجوي المدمر التي استهدفت المدن اليابانية كافة. سبب الاستثناء ان ضابطا قياديا أمريكيا طلب هذا الاستثناء، كونه زار المدينة قبل الحرب، وعرف أهميتها التاريخية والثقافية. ومعروف ان كيوتو هي العاصمة الامبراطورية لليابان على مدى حوالى ألف سنة.
وخلال حكم طالبان لأفغانستان قامت قيامة الغرب وتحديدا الولايات المتحدة عندما أقدم حكم طالبان على تدمير تمثال بوذا في باميان، بإعتباره اعتداء على التراث الثقافي الانساني. وهو رد فعل طبيعي ومبرر، خصوصا أن الحفاظ على التراث الثقافي العالمي يمثل حالة عالية من الرقي الانساني.
الأخبار الواردة امس بشأن التخريب في بابل الناجم عن الاعمال العسكرية للقوات الامريكية والبولندية، تظهر سلوكا غربيا مختلفا تجاه مدينة، تعتبر على رأس مواقع التراث البشري عبر التاريخ. فمدينة بابل المعروفة بجنائنها المعلقة وبشرائع حمورابي، اول قانون مكتوب في التاريخ، وبأنها الموقع الذي دفن به الاسكندر المقدوني الكبير، هي واحدة من العجائب السبع في العالم القديم.
يقول المسؤول عن دائرة الشرق الاوسط القديم في المتحف البريطاني جون كورتس: "بابل واحدة من المواقع الاثرية الاكثر أهمية في العالم، والاضرار الجسيمة التي الحقتها بها الثكنة العسكرية (الامريكية والبولندية) تشكل ضربة إضافية للتراث الثقافي العراقي". ويذكر كورتس ان الآليات العسكرية ألحقت أضرارا بأرصفة تعود الى القرن السادس قبل الميلاد، وألحقت اضرار بتماثيل محفورة عند بوابة عشتار الاسطورية وأدت الى انهيار جزء من سقف معبد نينما.
ومعروف ان المواقع الاثرية العراقية، التي تتمثل أهميتها في انها المواقع التي تشكلت فيها الحضارة العالمية قبل آلاف السنين لم تحظ بالرعاية والحماية التي حظيت بها كيوتو، ولم يحظ تدمير وتخريب الكثير منها بالاحتجاج الذي حظي به تدمير تمثال بوذا في باميان.
واللافت ان المدينة التي شهدت ولادة الشرائع البشرية الاولى، تعرضت للعدوان في حرب غير مشروعة دوليا وأخلاقيا وبحسب اعتراف الامين العام للامم المتحدة كوفي أنان نفسه. وفي هذا الكثير من المؤشرات والمدلولات.
ربما كان السبب وراء هذا التخريب في بابل ان الادارة العسكرية الامريكية لاتعرف حقيقة أهمية بابل. وهو في حال كان صحيحا يمثل كارثة حقيقية إذ انه يظهر مستوى من الجهل وانعدام الحساسية قل مثيله. ويظهر نوعا من عدم الاحترام للشخصية والثقافة العراقية، يعكس خطرا داهما على البشرية جمعاء وعلى العلاقات بين الشعوب ليس في العراق بل في أنحاء العالم كله.
وربما كان القيمون على أمور الجيش الامريكي والبولندي في العراق، يدرون ماهية أثار بابل، لكنهم يعتبرون ان اهميتها لا تتطلب عناء القيام بجهد إبعاد الآليات والمنشآت العسكرية عن تلك المنطقة المهمة للغاية ثقافيا وتاريخيا على الصعيد العالمي.
هذا الاستهتار بالتراث الثقافي الانساني في العراق ظهر منذ اللحظات الاولى للحرب، عندما تعرضت مواقع أثرية عراقية، بالغة الاهمية، للقصف الجوي والصاروخي، او لأثار ذلك القصف، برغم دعوات من اليونسكو ومن جهات علمية وثقافية وحقوقية، في العراق و خارجه لإستثناء هذه المواقع من القصف.
ولابد من تذكر أن البابا يوحنا بولس الثاني عدل عن حجه الى العراق، قبل الحرب، بعد ان رفضت القوات الامريكية التعهد باستثناء مدينة أور، حيث ولد النبي إبراهيم الخليل، من القصف، عندما كانت الغارات الامريكية والبريطانية على العراق متقطعة.
ويبدو واضحا من تصريحات كورتس عن ان التخريب في بابل ضربة إضافية للتراث العراقي، انه يذكر أساسا بما حصل غداة سقوط مدينة بغداد، عندما أحجمت القوات الامريكية عن حماية المتحف العراقي الذي يضم أكبر مجموعة أثرية وتراثية عراقية، ما ادى الى نهب عشرات آلاف القطع الاثرية من جانب اللصوص ومافيات تجارة الاثار.
وتكشف لاحقا ان تلك المافيات عملت بالتعاون والتنسيق مع ضباط كبار في الجيش والمخابرات الامريكية، خصوصا أنه كان لافتاً ان القوات الامريكية كانت متمركزة على بعد عشرات قليلة من الامتار من المتحف العراقي، الذي قيل انه فقد اكثر من مائتين واربعين الف قطعة اثرية، تمثل العديد منها بدايات تكون الحضارة الانسانية.
والكلام عن تورط ضباط امريكيين، ربما بصورة فردية، لا يعني ان القيادة العسكرية الامريكية ومن فوقها القيادة السياسية، لم تكن على دراية بما يجري اثناء عمليات النهب او التخريب للتراث التاريخي والثقافي العراقي. فطبيعة التطورات في العراق تفترض بأن القيادتين العسكرية والمدنية تتابعان يوما بيوم وساعة بساعة مختلف التطورات. ما يعني ان هاتين القيادتين إما غضتا الطرف متعمدتين، واما انهما لم تهتما بما جرى ويجري، وانهما لا تعيران أهمية للتراث الثقافي والتاريخي العراقي.
ويعيد هذا الى الذاكرة طبيعة الدكتاتوريات والملكيات السابقة، التي كانت تعتبر ان التاريخ بدأ بوصولها الى الحكم، وان ما سبق سلطتها لم يكن يستحق التأريخ والذكر. وبالتالي فإن التقويم عندها يبدأ من لحظة سيطرتها على الحكم. وعلى المقياس نفسه فإن الولايات المتحدة تبدو من سلوكها هذا تجاه التراث الثقافي العراقي، وهو جزء اساسي ومؤسس من التراث الثقافي الانساني، انها لا تعتبر هذا التراث ولا اي تراث انساني اخر خارج الثقافة الامريكية ذا أهمية ويستحق الانتباه.
التاريخ الوحيد المهم بالنسبة الى صناع القرار في الولايات المتحدة هو فترة المائتي عام التي تشكل عمر الولايات المتحدة وفترة الستين عاما، التي يقول بعض عدد من علماء التاريخ والدين انها عمر دولة اسرائيل التي اقيمت قبل الميلاد، وما عدا ذلك ليس مهما بالنسبة اليهم.
لكن هل كان التخريب في بابل عرضيا ام كان متعمدا؟
لابد من التذكر هنا بأن بابل التي انشأها نبوخذ نصر في القرن السادس قبل الميلاد، تمثل ذكرى مرة بالنسبة إلى اليهود. اذ ينسب اليها السبي اليهودي، عندما شن نبوخذنصر حربا على دولة اسرائيل آنذاك وسبى اليهود الى بابل حيث عاشوا كعبيد وأرقاء.
واذا ما لاحظنا اهمية التواريخ بالنسبة لليهود او المؤيدين لليهود من المسيحيين الصهاينة، فإنه لا بد وان نشك بقوة بوجود سوء نية تجاه ما يحصل للعراق، البلد الذي قامت زعامته في القرن السادس قبل الميلاد بسبي اليهود وتدمير دولتهم. والذي طالما توعدت قيادته في العصر الحديث بتدمير اسرائيل مجددا.
وفي هذا السياق يبدو تدمير العراق الدولة والبلد انتقاما لتدمير اسرائيل التاريخية، ومحاولة لتجنب مصير مماثل في حال ترك المجال للدولة العراقية ببناء قوتها واستقرارها. وبالتالي فإن الانتقام من بابل ليس، في غالب الاعتقاد صدفة، بل هو سلوك محسوب مرتبط بالاساطير اليهودية السوداء
شبكة البصرة
الاثنين 6 ذي الحجة 1425 / 17 كانون الثاني 2005