لقد بات العالم اليوم يعرف ويقر ان الولايات المتحدة الأمريكية بعدوانها على العراق واحتلاله وتدميره، قد أدخلت هذا البلد وعموم المنطقة في جحيم أمني وسياسي، وأشعلت فيه الحرائق الطائفية والعرقية ليتطاير شرارها في كل محيطه القومي، في محاولة لضرب وخلخلة المجتمعات العربية وتفكيكها وإعادة تركيبها وصياغتها وفق الرؤية والمصالح الأمريكية!!.
وقد بات معروفا أيضاً ان تصاعد وتيرة العدوان الأمريكي واتساع الهجمة الشرسة لإشغال الحروب الطائفية والعرقية في دولنا إنما يتم وفق نظرية ((المحافظون الصهاينة)) المسيطرون على القرار الأمريكي المعروفة بنظرية ((الفوضى المنظمة)) التي تشكل أحد الاضلاع الرئيسية في مثلث العدوان الأمريكي بالإضافة إلى نظرية ((الحرب الاستباقية)) ونظرية ((الضربات الاجهاضية)) وهي نظريات قد جرى اعدادها وصياغتها على يد هؤلاء الغلاة من السياسيين والعسكريين الأمريكان لاستهداف وضرب دول وقوى الرفض والممانعة في الأمة العربية والاسلامية. ولم يكن احتلال العراق وإسقاط نظامه الوطني والقومي وتدمير دولته وكل مؤسساته سوى وضع تلك النظريات موضوع التنفيذ على الواقع، ليكون العراق محطة الانطلاق لنشر وتعميم ((نظرية الفوضى)) على كل دول المنطقة التي يجرى رفدها واتباعها بتلك المنظومة المتكاملة من اللجان والقرارات الأمريكية، والدولية أيضاً لمحاصرة الدول العربية وحكوماتها لابتزازها سياسيا وعسكرياً واقتصادياً. فكما تعرف هناك لجنة مراقبة الحريات الدينية، وهناك لجان مراقبة حقوق الإنسان، وهناك أيضاً لجنة مراقبة معاداة السامية، وغيرها من اللجان التي يجرى تأسيسها يوميا في أمريكا على ما يبدو خصيصاً للدول العربية لاحكام طوق الحصار حولها، ورسم خطواتها السياسية قبل ان تأتي الخطوات اللاحقة بتحريك القوى الطائفية والعرقية من أجل أداء الدور المطلوب منها. ولأن الدول العربية هي في الأساس دول مخترقة أمنياً وعسكرياً وسياسياً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، فهي تعرف الأوضاع جيداً في هذه الدول بل تعرف الكثير من الاسرار والخفايا التي ربما لا تعرفها الحكومات نفسها عن دولها، فالواقع يؤكد ان الاختراق الأمريكي قد ((ضرب العظم)) و((بلغ النخاع)) كما يقال. فالولايات المتحدة الأمريكية تعرف ان الكثير من الدول والحكومات العربية هي عاجزة وضعيفة، وتعيش حالة انفصام وخصام مع شعوبها بحكم سياسة القهر والاستبداد المتواصلة عبر عقود، وبحكم الفساد السياسي والإداري المستشري في كل مفاصل وأوصال هذه الدول. كما تعرف ان هناك حريات تقمع وحقوق المواطنين تنتهك عبر الكثير من اشكال الاعتقال والتعذيب والتمييز الطائفي والعرقي، وتعرف ان بعض الاشكال والديكورات من الديمقرطيات المعمول بها في الدول العربية سرعان ما يجرى افراغها من جوهرها بطرق وأساليب ملتوية عديدة!!! وقبل ذلك وبعده تعرف أمريكا انه بحكم هذه التناقضات الحادة والصراعات المختلفة في الواقع العربي – هناك من هو جاهز ومعروض للطلب في سوق ((النخاسة السياسية)) للتآمر على وطنه والتحريض عليه عبر الاستقواء بالخارج سواء كان من الأفراد أو القوى التي لا تجد فيما تقوم به في هذا المجال ما يعيبها أو يقلل من مكانتها السياسية والاجتماعية، بعد ان نجحت الولايات المتحدة وواجهاتها المنتشرة في هذه الدول في استقطاب بعض القوى والشخصيات عن طريق الإغراء بالمساعدات المالية، والإغواء بالوعود الديمقراطية، لذلك لم يعد مستغرباً أو مخجلاً ان نرى من يجاهر أو يفاخر بمواقفه وسياساته التحريضية ضد بلده، وقد صرنا نرى ونسمع الكثير من «الفعاليات« و«المؤتمرات« التي تعقد، واصبحنا نرى «المآدب« و«الكرنفالات« التي تنظم من الأموال والمساعدات التي تقدمها بعض المؤسسات الأمريكية التي تحمل «مسميات مختلفة«، وكل ذلك يجري تحت سمع وبصر الحكومات وأجهزتها التي تعد وتراقب انفاس مواطنيها! وتتفنن في اصدار القوانين والتشريعات التي تصادر حريتها وتحد من حركتها! وصار العديد من الجمعيات السياسية والمنظمات الأهلية تشارك في ((الزفة الأمريكية)) جهاراً نهاراً من دون خوف أو خشية من العقاب، وصار ((شهود الزور)) وأكلة ((السحت الأمريكي)) من الدعاة والراقصين على مزامير ((بوش)) منهمكين في الترويج والتبشير بجنة الديمقراطية الأمريكية، وبدعم ((المهمة الرسولية)) التي كلف الله بها هؤلاء ((المسيحيين المتصهينين)) لينشروا (العدالة) و(الحرية) بيننا ويأخذوا بأيدينا إلى طريق الهداية،، نحن ((الضالين)) (المتخلفين)) و((الإرهابيين))! وسط هذا العبث والتلاعب الأمريكي بحاضر ومستقبل دولنا، ووسط ما تشهده بعض الساحات والمجتمعات العربية من تحرك وحراك سياسي من قبل القوى السياسية والوطنية والقوى الحية في المجتمع من أجل المطالبة بالحرية والإصلاح الديمقراطي الحقيقي نرى تداخل الخطوط، ودخول أمريكا على الخط لخلط الأوراق وإرباك الموقف بهجومها الذي يحمل هذه المرة عناوين الإصلاح والديمقراطية مستخدمة اساليب التضليل والكذب، وكل أدوات الدعاية والإعلام، لاجتياح عقول وقلوب شعوب المنطقة المتعطشة للحرية وللديمقراطية، وخاصة بعد ان جربت أمريكا ((الكابوس)) العراقي الثقيل وعرفت حجم تكاليف عدوانها ونزعاتها المتغطرسة المتمثلة في آلالاف من القتلى والجرحى والمعوقين والمشوهين من جنودها. والمليارات من الدولارات التي تنفقها على الحرب هناك، وتصاعد خسائرها البشرية والمادية بفعل تزايد المقاومة واستمرارها. وأمام تورط بعض القوى والافراد داخل الدول العربية في هذا الهجوم الأمريكي ((الكاذب)) و(المخادع)) وسقوطها في شبهة التواطؤ مع المشروع الأمريكي عن سبق اصرار وترصد كما يقال بلغه القانونيين وسقوط البعض الآخر جهلاً في بحر الأوهام مدفوعاً ((بنزاعات طائفية)) و((اصطفافات مذهبية)) ملتبسة كامنة في قلب وعقل الكثير من اصحابها. أمام هذا الواقع العربي بكل ما يحمله من تناقض وتضارب يصل إلى حدود الفواجع والمآسي، ومن بين هذا التراكم المضطرب من المشهد السياسي العربي، تبرز بين الحين والآخر بعض الاصوات الشريفة، والمسئولة المحذرة من مغبة الوقوع في الفخاخ الأمريكية المنصوبة بإحكام لهذه المنطقة ولدولها ولشعوبها. اصوات تنذر وتحذر من النتائج الكارثية للغفلة الاندفاع وراء عملية التجهيل والتضليل الكبرى التي تسعى امريكا إلى تمريرها في المنطقة تحت عناوين كاذبة. ومن تلك الاصوات الأكثر قوة ودوياً صوت سماحة السيد محمد حسين فضل الله الذي درج واعتاد من فترة طويلة على استخدام كل قدراته العلمية ومكانته الدينية والسياسية وكل ما يتمتع به من رؤية وحكمة وبلاغة لتوجيه خطاباته ورسائله المتعددة إلى أولئك السارين في غيهم وجهلهم والمدفوعين بغرائزهم ونزاعاتهم الطائفية والعرقية، ممن يعتبرون صيداً سهلاً ((للذئب الأمريكي)) فقد كانت ندواته الأسبوعية، واجاباته عن الأسئلة التي تطرح عليه تتطرق إلى الأوضاع العربية والاسلامية وتصب في توضيح الحقائق التي تسهم في توعية وتنبيه المواطن العربي حول انتمائه الوطني والديني والحزبي، وكذلك انتمائه الطائفي وعلاقة ذلك بالوطن الذي ينتمي إليه وعلاقة كل ذلك بما تخطط له الولايات المتحدة الأمريكية من احداث وتطورات تحركها وفق ارادتها ومصالحها، وكذلك بالقوى والأنظمة التي تسعى إلى خلقها وفرضها بالقوة والاكراه العسكري والسياسي. وفي هذا الصدد فقد اجاب عن سؤال بشأن العلاقة بين القيادة والقاعدة من منظار اسلامي فقال: ((علينا كشعوب عربية وإسلامية ألا نكون فريسة سهلة لعملية التجهيل الكبرى التي تسعى أمريكا إلى تمريرها في المنطقة سواء من خلال العناوين الاصلاحية والديمقراطية التي ترشها على سطح الاحداث التي غالباً ما تحركها هي أو تستفيد من اخطاء الآخرين لتحريكها وتسلط الضوء عليها، وهي تعمل بوتيرة متصاعدة لاستغلال الكثيرين ممن يشكلون ((طفرة سياسية)) في طول المنطقة وعرضها لتقديمهم كمنارات سياسية تتغذى من دعمها السياسي والمالي، وفي عرض آخر من الاجابة يقول: ((إن أمريكا ترمي بكرة النار لتنظر ما هو رد الفعل لتبني على الأمور ما تفتضيه حاجات مشروعها، وترش القلق في جانب آخر لتجتذب صراخاً سياسياً يحمل معطيات مشروعها إلى الواجهة، لذلك نحن نحذر من الوقوع فريسة للخطط الأمريكية في المنطقة ونحذر من ان تكون حركة البعض منهم صدى لما تريده أمريكا سواء كانوا يدركون ذلك أم لا يدركونه، وليدرسوا خطواتهم وخطابهم السياسي بدقة ورصانة ليصب في حسابات وحدتهم وحوارهم الداخلي، ولا يكون عالة على الوطن ومستقبل اجياله)). وهنا دعونا نقف قليلاً عند فحوى ومغزى هذا الكلام ودعونا نفسح المجال للعقل ليطلق بعض الاسئلة الاعتراضية حول بعض التصريحات التي يحار المرء في تفسيرها، وعندما يدور الحديث عن رصانة الخطاب وحسابات الوحدة الوطنية!! من هذه الأسئلة على سبيل المثال لا الحصر: هل يجوز لنا نحن كأفراد أو قوى سياسية ونحن نتصدى لقضية وطنية من قبيل الحقوق السياسية أو الدستورية المشروعة، هل يجوز ان نحمل هذا العمل الوطني أو نقيس عليه واقعاً مثل واقع وظروف العراق تحت الاحتلال؟ وهو الواقع المأزوم والمشحون بالالم والاوجاع حيث تشتعل الحرائق في كل زاوية من زواياه، وتشم رائحة الموت بفعل المحتل في كل ركن من أركانه؟ هل يعد هذا الذي نعرفه ونراه عن عراق اليوم، عراض ((السيارات المفخخة)) و((المعتقلات المكتظة)) و((العصبيات المجنونة)) المنفلتة من عقالها، في ظل هذه المشاهد المأساوية والمرعبة هل يجوز ان نقول ان العراق هو اليوم أفضل من الدول العربية جميعها؟ وفق أي منظور وطني أو اخلاقي يمكن تقبل هذا الادعاء؟ وكيف للمرء ان يستوعب أو يهضم هذه التصريحات التي تنقصها الدقة أو الرصانة على حد تعبير السيد فضل الله؟
إذا كان هذا العراق رغم ما يشهده ويعيشه من كوارث يمثل ((النموذج الأفضل)) الذي يجب الاقتداء به،، فهل هذا يعني اننا نقبل ان نرى ونعيش هذه المآسي والفواجع التي سببها المحتل الأمريكي في بلدنا لا سمح الله؟ فقط لمجرد ان العملاء أو الخونة الذين وضعهم المحتل الأمريكي في الواجهة ليحكموا العراق اليوم هم ينتمون إلى هذه الطائفة أو تلك أو ينحدرون من هذا العرق أو ذاك؟؟؟ ترى لماذا هذه العصيبة؟؟ ولماذا هذا الانفعال والاندفاع الغريزي للدفاع عن ((الاطر الحزبية)) والطائفية بعيداً عن الإطار الموضوعي على حد قول السيد فضل الله؟ الذي يوضح الموقف الاسلامي من العصبية وتأثيرها السياسي والاجتماعي في الوقع المعاصر، حيث يقول: ((ان المشكلة التي تواجه الإنسان في انتماءاته الدينية والحزبية والسياسية، هي مشكلة الاستغراق في الغرائز العصبية، وان ثمة عصبية خطيرة يعيشها مجتمعنا بدأت تأكل الأخضر واليابس سياسيا وحزبياً وحتى طوائفياً ودينياً، وقد تحولت الاحزاب في الواقع إلى مشكلة عندنا، عندما انتقلت أمراض الطوائف إليها، إذ أضفعنا طوائف جديدة إلى العديد من الطوائف عندنا، ولكن اطلقنا عليها مصطلحات عصرية ومفردات تؤمن بالتطور والعصرية والحضارة ولعل ان المشكلة في كياناتنا السياسية أو الحزبية والفكرية والطائفية انها لم تتحول إلى مؤسسات)). نحن في الواقع نسوق هذا القول من منطلق احساسنا الوطني والقومي، ومن دافع شعورنا بالمسئولية الوطنية في ضرورة التنبيه إلى مخاطر الانزلاق أو السقوط في ((مهاوي)) العصبيات مهما كان مصدرها أو نوعها لانها تضر بالوحدة الوطنية وبوحدة القوى السياسية الوطنية التي تتصدى إلى مهمات وقضايا وطنية وقومية مقدسة فوق كل العصبيات المذهبية والطائفية، بل تشعر ان هذه المسئولية تتضاعف عندما تكون ((المعارضة السياسية)) في واجهة الاحداث، أو كما يقول السيد فضل الله عن آفاق المعارضة من المنظور الاسلامي: ((اننا لا نريد لدعاة الاصلاح ان يتنازلوا عن شعاراتهم ولكن ان يوازنوا بين ما يمكن تحقيقه في الداخل وما ينبغي مواجهته من هجمة خارجية، لاننا نلمح هجمة تتجاوز كل الشعارات والعناوين المذهبية التي تلقى في ساحة المنطقة ونقول لكل من يتحرك على خط المعارضة في الواقع العربي والاسلامي من خلال مسئوليته الوطنية الشرعية ان يرصد القضايا الكبرى للأمة لا ان يتطلع فقط إلى الميدان السياسي المحلي لأن حماية المواقع الاستراتيجية للأمة في مواجهة العدو الخارجي تبقى هي الأساس ولأن مصلحة الأمة تتقدم على المصالح الأخرى)). كلام يحمل الكثير من الوضوح كما يحمل الكثير من الدلالات الغنية عن الشرح والتفسير، وقد يقول قائل ان السيد فضل الله يخاطب الواقع اللبناني خاصة بعد التطورات الأخيرة الحاصلة في لبنان، هذا شيء لا شك فيه، ولكن من المؤكد أيضاً ان رجلا مثل السيد فضل الله وفي منزلته العلمية والاجتهادية وما يحظى به من مكانة دينية وسياسية في لبنان وفي ميحطه العربي والاسلامي بالإضافة إلى ما يتمتع به من قوة إيمان بانتمائه العربي والاسلامي ونظرا لتميز مواقفه من الاحتلال الصهيوني في فلسطين ولبنان ودور المقاومة فيهما، وكذلك موقفه الرافض للاحتلال الأمريكي للعراق وتأييده للمقاومة فيه. نقول ان رجلاً بهذه المواقف والمواصفات وبهذا الوضع الديني والسياسي لا يمكن ان يخطىء الفهم والعقل رسائله التي يبعث بها وتتجاوز حدود محيطه اللبناني إلى مواقع عربية واسلامية تعيش فعلاً حالة اهتزاز داخلي وتعاني بعض اطرافها تشويشا وتشويها في الرؤية الوطنية والقومية بحكم النظرة الطائفية المسيطرة عليها، والتعصب المذهبي المهيمن على تفكيرها والموجه لسلوكها. وهذا ما يجعلها تغرق في وهم ان أمريكا يمكن ان تكون يوماً المنقذ لها في مواجهة حكوماتها ودولها!! وهذه مسألة يحرص السيد فضل الله على تأكيدها بقوله: ((ان البعض يتصور ان الولايات المتحدة الأمريكية يمكن ان تكون المنقذ لهذه الشريحة أو تلك، في مواجهة هذا النظام أو ذاك، ليكشف الجميع وربما بعد فوات الأوان ان المسألة هي مجرد استخدام هؤلاء أو أولئك كجسر بشري أو كأدوات سياسية لحساب أمريكا ومشروعها في المنطقة)). وأخيراً نقول كما قال السيد فضل الله ((إننا لا يمكن ان نكسر المشروعات القادمة أو نسقطها الا من خلال الوحدة الوطنية الداخلية التي تذوب فيها الاطر المذهبية والسياسية والحزبية لحساب القضية الكبري وعلى أساس اننا مهددون على مستوي المصير وليس على مستوى المرحلة)).
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.