منذ ما يزيد على ثلاثة عقود والعراق يواجه الكثير من المخاطر والتحديات، ويتعرض للعديد من المؤامرات الداخلية والخارجية، وقد خاض نيابة عن الأمة العربية حروبا وصراعات شرسة مع القوى الاستعمارية والصهيونية، ومع دول وقوى عنصرية وطائفية وشعوبية، كانت جميعها متفقة على هدف واحد، هو جعل العراق كيانا هزيلا ممزقا، فاقدا هويته الوطنية والقومية، وهو ما يعني القضاء على أي دور أو تأثير لهذا القطر العربي في محيطه القومي والإسلامي. ولبلوغ هذا الهدف سعت تلك الدول والقوى المعادية – على اختلاف تلاوينها – لوضع مخططات الحروب وسيناريوهات الغزو والعدوان،وفرضت الحصار والعقوبات، التي بلغت ذروتها في العدوان المسلح في مارس 2003م عندما اجتاحت جحافل الغزو الأمريكي البريطاني أرض العراق وقامت بإسقاط حكومته ودمرت دولته القائمة، وخربت كل مؤسساتها وهياكلها الأمنية والعسكرية والسياسية. هذه الأحداث والوقائع التي لايزال العراق يعيشها ويشهد فصولا يومية منها، ليست بحاجة إلى تنظير أو اجتهاد، فالواقع يكشف بوضوح حجم وطبيعة المخطط الأمريكي الصهيوني الذي جرى ويجرى تنفيذه على يد الاحتلال وعملائه من الطائفيين والشعوبيين العنصريين، وبتواطؤ قوى ودول إقليمية من مصلحتها أن يبقى العراق ينزف دما حتى يفقد القدرة على الحياة. ومع توالي الأحداث وتكشف الحقائق بات المرء قادرا على القراءة العادلة والمنصفة لكل ما يجري على أرض العراق، وصارت هناك قناعة تامة بأن ثقل العراق السياسي والعسكري والاقتصادي، وكذلك إرثه الحضاري والتاريخي، إضافة إلى ما يختزنه من عوامل القوة والنهوض وما يلعبه من دور قومي بارز في القضايا العربية وعلى الأخص قضية فلسطين، هي جميعها في مقدمة الأسباب التي عرضت العراق للعدوان والاحتلال، وجعلت منه مسرحا للكثير من الويلات والنكبات التي تفوق قدرة تحمل أي بلد، وهي التي تؤكد أيضا أن هذا القطر العربي يتعرض لعملية انتقام شرسة وحاقدة من قبل المحتلين الغزاة، وأعوانهم من القوى الطائفية التي جاءت على ظهر دباباته، وتحولت إلى ذئاب مفترسةوتنشر الطاعون الطائفي والعنصري الذي جعل من العراق نموذجا للخراب والفوضى، وعنوانا للتقاتل والتمزق، وهو ما تجلى في الإجراءات والممارسات التي تعمل على طمس هويته الوطنية والعربية، وتجزئة وحدة أرضه وشعبه، وضرب كل قيم المحبة ومبادئ التعايش والتسامح التي عاشها العراق وطبعت كل مراحل تاريخه. واليوم تصل العملية الانتقامية إلى ذروتها، وتتضح أبعادها الخطيرة وصورها الإجرامية، عبر محاولات فرض وتمرير ما يسمى بـالدستور العراقي هذه الوثيقة الأمريكية الصهيونية، التي جرى إعدادها بمنتهى الخبث والحقد لجعل تقسيم العراق أمرا واقعا لا مفر منه، من خلال ;مسميات وواجهات وهمية مثل الفيدرالية والكيانات المستقلةوتقاسم الثروات وغيرها من الدعوات الصريحة التي تحول العراق الموحد إلى مجرد أقفاص طائفية يتلاعب بها أمراء الطوائف ولصوص الثروات، الذين أصبحوا اليوم بفضل الأمريكان في سدة الحكم ويتعاملون مع العراق باعتباره غنيمة يجرى التنافس والتكالب عليها للفوز بأكبر حصة ممكنة من هذه الغنيمة خدمة لمصالحهم لا مصالح العراق كما يزعمون. لذلك، أنه ليس من باب المصادفة أن تجرى محاولات فرض هذه الوثيقة الإجرامية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية باستخدام كل أساليب الضغط والترهيب، وتزامن هذا الأمر مع استنفار الإعلام الأمريكي الصهيوني مع بعض الإعلام العربي الساقط وبعض الكتاب ومن مدعي السياسة المربوطين بذيل الوحش الأمريكي، وتزايد الدعوات والكتابات المشبوهة التي تروج لفكرة أن العراق لم يكن يوما دولة موحدة وان هذا البلد كان دائما يفتقر إلى الهوية العراقية الحقيقية وان الدستور المطروح حاليا لا يقسم العراق، لأنه في الأساس بلد مقسم، وان أي دستور آخر يوحد ويجمع العراقيين في وحدة واحدة بمختلف أعراقهم وطوائفهم من شأنه أن يؤدي إلى حرب أهلية، وان بعض الأقلام الصهيونية ترى أن الاحتلال هو فرصة تاريخية لتصحيح تركيبة العراق الخاطئة، وانه لابد من إعادة صياغتها وفق تقسيمات طائفية وعرقية حسب زعمها. وهكذا نجد كيف أن التزوير وقلب الحقائق يبلغ مستويات تصل إلى حد الاستهانة بعقل وبمشاعر العراقيين والعرب، وهذا ما يكشف لنا أن التقسيم هو في الأساس خيار أمريكي وصهيوني وهو كذلك خيار إيراني، كما أنه للأسف خيار بعض الدول العربية المجاورة للعراق أيضا، وباتت القضية اليوم واضحة ومعروفة للقاصي والداني، بعد أن تساقطت كل الأقنعة الكاذبة، وان ما يخطط ويرتب للعراق يتم تنفيذه على يد العملاء والحاقدين على العراق وعلى عروبته وهويته القومية، وفي هذا الإطار وجدنا كيف يتقاطر العملاء – في زيارات متتالية – على واشنطون يطلبون إليها عدم الهروب من العراق ويستجدونها في مواصلة التحالف معهم والرهان عليهم في تنفيذ الأهداف المعدة للعراق والمنطقة، في توافق وتزاوج – لا يبدوان غريبين مطلقا – في الأهداف والنوايا بين الشيطان الأكبر وهؤلاء الشياطين الصغار وإثبات القدرة على التعامل مع الأقطار العربية وهي ممزقة الأوصال مذهبيا وعرقيا. وهكذا فإن سياق المنطق والتحليل الموضوعي يقودنا حتما إلى عدم فصل دعوات التقسيم الصادرة عن رموز العمالة في العراق سواء ما تعلق منها بإقامة فيدرالية الجنوب والوسط والشمال أو فصل البصرة إداريا وماليا، واعتبار هذه الدعوات كمطالب مقدسة، أو حول مسألة اجتثاث البعث وما يصدر من تصريحات مسعورة بالنسبة إلى هذه المسألة، والإصرار على تحويلها إلى مواد وبنود في دستورهم الأمريكي الصهيوني. إن كل هذه الدعوات تنسجم من دون شك مع الهدف الأساسي الذي بات مكشوفا وهو تمزيق وحدة العراق وطمس هويته العربية، وإبعاده عن محيطه القومي، لذلك سعت الإدارة الأمريكية وعملاؤها منذ اليوم الأول لغزوها العراق إلى القضاء على الشرعية العراقية التي يمثلها الحكم الوطني والقومي القائم قبل الغزو، لأن هؤلاء المجرمين يعرفون جيدا أنه لا سبيل أمام تنفيذ مشروعهم الخبيث وأحلامهم المريضة في تمزيق العراق من دون القضاء على الشرعية العراقية، التي كان تمثلها الدولة العراقية التي دمرها الاحتلال وعاث فيها المجرمون الطائفيون فسادا وخرابا. واليوم فإن المقاومة العراقية الباسلة هي التي تمثل الامتداد الطبيعي للدولة الشرعية، هذه المقاومة التي تفرض بقوة السلاح عدم مشروعية الاحتلال وكل مؤسساته وافرازاته، وكل رموزه وشخوصه الخائنة، وهي (أي المقاومة) التي أعدها وفجرها وقادها حزب البعث العربي الاشتراكي ذو التوجه الوحدوي والقومي الذي عمل على توحيد العراق وحماية هذه الوحدة وفرضت عليه حروب وصراعات مع قوى استعمارية انفصالية وهو يدافع عن وحدة العراق وسيادة وكرامة شعبه، وهو الحزب الذي وضع العراق في قلب العرب والذي جعل العرب في قلب العراق والعراقيين، لذلك ليس مستغربا أن تتوالى إساءات رموز العمالة إلى هذا الحزب ومحاولات تصفية كل من تربطه علاقة به، لأنه يمثل النقيض لهم، ووجوده يمثل أكبر عقبة في طريق أهدافهم الشريرة، ولكن هيهات لهم ذلك، وقد أصبحت المقاومة اليوم بفضل قادتها قوة ضاربة بعد أن ألحقت الهزيمة المنكرة بالاحتلال وأعوانه، وجعلت قواته تنتحر على أسوار بغداد ولم يعد أمامهم سوى خيار الهروب أو التفاوض وفق شروط المقاومة، وهذا ما يفسر إصرار المحتل الأمريكي ووكلائه على تمرير الدستور المزعوم تحت أي ظرف من الظروف، وباستخدام كل السبل الإجرامية، لأن بوش وزمرته يتصورون أن ذلك سوف ينقذهم من المأزق الذي وضعتهم فيه المقاومة العراقية الباسلة. فالاحتلال اليوم بات في وضع هستيري يدفعه إلى ارتكاب أبشع الجرائم بحق العراقيين، التي كان آخرها جريمة جسر الأئمة التي راح ضحيتها ما يزيد على ألف شهيد من الناس الأبرياء، بعد أن أيقن أن دستوره سوف يكون مصيره الفشل بعد أن لاحت بوادر وحدة وطنية عراقية غير مسبوقة في رفض هذا الدستور، وان هناك إصرارا على إسقاطه بكل السبل، وكل هذا التوحد بين العراقيين سنة وشيعة هو أكثر ما يقلق الاحتلال وأعوانه الطائفيين الذين عملوا منذ دخولهم العراق على تكريس الطائفية وضرب الوحدة الوطنية العراقية، ولم تكن مجزرة جسر الأئمة البشعة بعيدة عن توجه الاحتلال في إشعال نار الطائفية، وهي سياسة باتت مكشوفة يستخدمها في كل محطة أو مرحلة من مراحل ما يطلق عليه العملية السياسية التي جرى طبخها في البنتاجون، وقد وجدنا طوال العامين الماضيين كيف تم استهداف المراكز الدينية ومساجد السنة والشيعة على حد سواء، وتنفيذ الكثير من العمليات الإرهابية التي طالت الأضرحة والمزارات المقدسة، وكيف تم اختطاف أناس أبرياء في بعض المناطق المحسوبة على هذا الطرف أو ذاك ويجرى بحبهم بطريقة بشعة، لشحن النفوس وتعميق الأحقاد الطائفية وزيادة التباعد بين العراقيين، وقد حصل ذلك عند تمرير قانون بريمر السيئ الصيت، وعند تشكيل أول مجلس حكم الطوائف والمحاصصة، وحصل عند إجراء الانتخابات المزعومة وتشكيل ما يسمى بـالجمعية الوطنية وهو يحصل الآن بشكل يومي لخلط الأوراق وتكريس الاستقطاب الطائفي في لعبة تمرير الدستور. لذا نقول لبعض السذج والمهووسين طائفيا أن يعوا حقيقة ما يحصل في العراق، وألا ينغمسوا كثيرا في هذه اللعبة القذرة التي صنعها المحتل الأمريكي، ويسهموا بوعي أو من دون وعي في إذكاء النار المشتعلة، التي أخذت شرارتها للأسف تتطاير في سماء أقطارنا وتحجب بعض العقول والنفوس عن رؤية الحق والحقيقة في أرض العراق، وليس هناك أكبر من حقيقة وحدة العراق وعروبته، وحق شعبه في المقاومة التي استطاعت أن تهزم المحتل بكل ما يملكه من قوة، وسوف لن تعجز عن هزيمة وإسقاط دستورهم القادم.. وعاجلا أم آجلا سوف يشرق فجر الحرية في هذا القطر العربي، وسنرى بإذن الله تعالى عراقا ديمقراطيا حقيقيا مستقلا عربي الهوية وسوف يفتح مع باب النصر القادم أبوابا واسعة للنهوض القومي العربي، رغم أنف الغزاة وحلفائهم من السماسرة والعملاء الذين يبيعون العراق بالجملة والقطاعي.