الحقيقة التي لا يعرفها الطائفيون ولا يريدون أن يفهموا مدى صدقها وجوهرها هي اننا أبناء هذا الوطن شعب واحد عاش فيه أجدادنا ومازلنا نحن وستبقى أجيالنا تعيش فيه، نحن جميعا شركاء نتقاسم العيش والهموم والمشكلات، مهما كانت قسوة الحياة والظروف، قد تختل بعض موازين العدالة والمساواة في بعض اللحظات من حالات شيوع التعصب والتهميش، وقد يحرم البعض منا من مغانم الوطن ويتجرع كؤوس المغارم في ساعة من ساعات اختلال الوعي الوطني وانحراف العقل السياسي، إلا أن كل هذا لا يمكن له أن يغير في حقيقة وحدة هذا الشعب واعتزازه بالانتماء إلى هذا الوطن. هذه حقيقة ثابتة وراسخة في وجدان وضمير كل أبناء البحرين بمختلف انتماءاتهم المذهبية ومعتقداتهم السياسية والفكرية أنها الحقيقة التي لا يؤمن بوجودها بعض الضالين والساقطين في مهاوي الطائفية، والذين يعبرون عن أنفسهم ويكشفون عن مواقفهم من خلال بعض السلوكيات والأفكار الشاذة. فهؤلاء ونظرا إلى غياب الحس والضمير الوطني عندهم ينظرون إلى الوطن وكل ما فيه باعتباره وسيلة لبلوغ أهدافهم ومآربهم وهم يوظفون كل تحركاتهم وسكناتهم وشعاراتهم لخدمة تلك الأهداف، ونحن هنا في حقيقة الأمر نتعامل مع عقلية ملوثة وفكر منحرف، ونواجه ظاهرة مرضية مقلقة تتطلب حلولا عاجلة وحازمة، ولكن قبل ذلك نحتاج إلى مكاشفة جادة وصادقة، فنحن نرى اليوم ونسمع بوادر فتنة تطل برأسها وتقود إلى حالة من الاستقطاب الطائفي المقزز، قد تصورنا بأننا طوينا صفحاته المؤلمة من دون رجعة، وهذا يعني أن الحالة الشاذة الحاصلة اليوم من التجاذب والتوتر المذهبي ليست نتاج الظروف الحالية فقط، بل هي تفصح عن احتقان مكبوت في النفوس ويبحث عن أي فرصة، وينتظر أي سقطة أو هفوة من هذا الطرف أو ذاك لينفجر في وجه الجميع ويحرق الأخضر واليابس كما يقال، ويكون الوطن للأسف هو الضحية لهذه السلوكيات الطائفية المنحرفة وهو الذي يتحمل تداعياتها السياسية والاجتماعية السلبية، والحديث هنا عن المكاشفة إنما يستوجب فتح هذا الملف من دون تردد أو خوف ومن دون الركون إلى أعذار وهمية للتهوين أو التقليل من شأن ما هو حاصل، فقط لمجرد إراحة النفس أو تخديرها بصورة آنية، والإبقاء على جرح الوطن ينزف بصورة دائمة. وأولى الخطوات المطلوبة في هذه المكاشفة الوقوف على الأسباب الحقيقية لهذا الاحتقان والاستقطاب الطائفي الذي صار يأخذ في الوقت الراهن شكلا حادا ومقززا (مصحوبا بالسباب والشتائم) ويبعث على القلق والريبة من الدوافع التي تحرك الأطراف الضالعة في هذا الهوس الطائفي. علينا أن نقر صراحة بأن البلد قد شهد وعاش العديد من الأزمات التي تفاقمت مع الوقت، وأحدثت شروخا عميقة ومؤلمة من دون أن يقابلها نوايا صادقة، وخطوات جادة لمواجهتها، ووضع الحلول اللازمة والعادلة لها، وفي مقدمة تلك الأزمات أزمة الحريات واشتداد موجات القمع وحالات الاستبداد واتباع سياسة الإقصاء والتمييز لدوافع غير وطنية، إضافة إلى تفشي مظاهر الفساد وهدر المال العام، وهو ما جعل الكثير من المواطنين يقعون فريسة للشعور بالظلم واليأس، وهو ما أوجد التربة الخصبة لنمو جرثومة الطائفية، وأوجد أيضا العناصر الانتهازية التي تغذي هذه الحالة وتقتات من ورائها، والنتيجة الحتمية والطبيعية لهذا الوضع هي اختلال المعادلة الوطنية وتراجع ما هو وطني ومشترك بين أبناء هذا البلد الواحد. ما نقوله هنا يشكل جزءا من الحقيقة، أما الجزء الآخر المكمل لها فهو أن ما حصل في الماضي لا تتحمل الدولة وحدها مسئوليته، فالكثير من المؤسسات الأهلية وقوى المجتمع المدني وكذلك القوى السياسية هي مسئولة بشكل أو بآخر عما انحدر إليه مجتمعنا من سلوكيات تفتقر إلى الوعي الوطني مع تنامي ثقافة الاستثئار وتغليب المصلحة الخاصة على حساب المصالح العليا للوطن. فالقوى الوطنية بعد أن تعرضت للضرب والتفتيت استسلمت للواقع وتراجعت عن القيام بواجبها الوطني والسياسي تاركة الساحة للقوى الدينية والطائفية تملأ الفراغ الحاصل، وتقود الشارع وفق حساباتها وأجندتها التي لا يمكن أن تفرز غير الوضع الذي نراه ونعيشه الان. قد يجد البعض في هذا القول – على ما فيه من صراحة وما يسببه من ألم – قد يجد فيه بعض التحامل ويرى فيه حكما غير عادل، وسوف لن نلوم هذا البعض على ما يفكر فيه، لأنه ببساطة ينظر إلى القضية المطروحة من زاوية واحدة ورؤية قاصرة، في حين أن الموضوعية والإنصاف تستدعي النظر إلى هذه المسألة من عدة زوايا للوقوف على أبعاد المشكلة ومعرفة مسئولية كل الأطراف ودور كل منها في استشراء وتنامي مرض الطائفية الذي قد أصبح اليوم مشروع فتنة يهدد الوطن ويزرع فيه بذور الخراب السياسي والاجتماعي، وهو مشروع متورط فيه للأسف العديد من الجهات والواجهات الرسمية وكذلك بعض رجال وعلماء الدين المحسوبين على هذه الطائفة أو تلك، وأيضا بعض القوى والرموز المتطرفة المحسوبة على هذا الاتجاه أو ذاك، وتعمل بصورة مكشوفة وتلعب في الملعب الطائفي من دون خجل أو وجل، وكذلك بعض المثقفين والسياسيين الذين يوظفون الدين والاختلافات المذهبية في ألاعيبهم ومناوراتهم السياسية بشكل انتهازي فاضح. وفي موازاة كل هؤلاء هناك الإعلام الذي صار يلعب دور المحرض والنافخ في النار، كما نراه ونلمسه في بعض القنوات الفضائية وبعض الصحف التي تعج بالكتابات والمقالات التي تسمم الأبدان والأوطان، وتصب الزيت على نار الضغائن والأحقاد، في وقت كان ينبغي فيه على الإعلام أن يلعب دوره في ترسيخ لغة التسامح والتعايش الأخوي وتأصيل ثقافة حب الوطن في وجه ثقافة الكراهية والتعصب المذهبي، وخاصة أن البلد يدخل مرحلة جديدة تحتاج إلى تعزيز أجواء الثقة وتعميق وعي المواطنين بقيم الوحدة الوطنية، وهو ما يعني بناء أسس ومرتكزات الديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية التي نتطلع إلى وجودها كعناوين وكحقائق للمشروع الإصلاحي. ومع مشروعية هذه الأهداف ومع ضرورة تحقيق إجماع وطني حولها فإنه علينا أن ندرك أن الطائفية كظاهرة اجتماعية ووليدة ظروف أو مرحلة اجتماعية وسياسية معينة، لا تعني أن زوال تلك الظروف وتبدل شروطها سوف يزيل الطائفية ويقتلع جذور الطائفيين، والسبب هو أن الطائفية للأسف تكتسب مع الزمن نوعا من الثبات والرسوخ بفعل بعض الممارسات والسلوكيات غير الواعية سواء من جانب الحكومات ومؤسساتها أو من جانب المجتمع، وهو ما يجعل هذه الطائفية قادرة على التكيف مع الظروف السياسية الجديدة، وبالتالي هي قادرة على البقاء والاستمرار والتعبير عن نفسها في أنماط وأشكال مختلفة. لذلك فإن هذه القضية تحتاج إلى وعي من نوع خاص، وتحتاج إلى سلوكيات وتضحيات من نوع خاص أيضا وخاصة من جانب الدولة باعتبارها صاحبة القرار والمبادرة وسوف تكون هي دائما مسئولة عن أي إخفاق أو استسلام أمام هذا المرض الذي يفتك بجسد الوطن ويصيبه بالضعف والهزال. وليس هناك شيء يكسبه القوة والمناعة سوى القوانين العادلة والمؤسسات القوية التي تؤمن استقرار الوطن، وتصون وحدته وأن تكون الدولة عامل توازن بين جميع قوى المجتمع وكل أطيافه ونرجو ألا يفهم أحد أننا نطلب أو ندعو إلى عودة قوانين القمع والاستبداد التي ترهب الناس وتصادر حرياتهم والتي قد قبرها مشروع جلالة الملك، فالاستبداد لم يكن يوما مقياسا لقوة الدولة بل على العكس فالدولة القوية والواثقة من نفسها هي التي تنفتح على كل مواطنيها، وتمنحهم ثقتها من دون خشية أو تفرقة أو تمييز بينهم، وتجعل من هؤلاء المواطنين سياجا يحميها ويحمي الوطن من أي هزات داخلية أو خارجية، وخاصة قد بات اليوم مؤكدا أن هناك أسبابا خارجية تغذي التوتر الطائفي مستغلة الظروف الداخلية لإحداث مزيد من الضعف والتفكك في النسيجين الاجتماعي والوطني في دول المنطقة. فعلى الصعيد الدولي تقود الولايات المتحدة الأمريكية حربا شرسة على المنطقة بمشاريعها الاستعمارية واستراتيجيتها القائمة على نظرية الفوضى الخلاقة وترجمتها إلى حروب عسكرية وسياسية وثقافية لمحو هوية المنطقة وزعزعة بنيانها، وتقسيمها على أسس طائفية وعرقية. كما أن الوضع الإقليمي شهد ومازال يشهد الحروب والصراعات التي تسهم في تقوية النزعات الطائفية وخاصة ما جرى للعراق بعد تعرضه للعدوان والاحتلال الأمريكي البريطاني، وتوالي الأحداث الدموية فيه بفعل ممارسات الاحتلال وعملائه والتي أفرزت حتى الآن وضعا طائفيا وتقسيما خطيرا، وأشعل نار الفتن بين أبناء شعب العراق بمختلف مكوناته المذهبية والعرقية، وهي ما كان له انعكاس سلبي على دول المنطقة التي تطايرت لها شرارات هذه النار الطائفية، ومنها للأسف وطننا الذي لم يكن بمنأى عن هذه الأحداث وتداعياتها السلبية. فالطائفية في نهاية المطاف تشكل أساسا أيديولوجيا لفكر إقصائي واستئصالي، والمواقف السياسية والاجتماعية عند أصحاب هذا الفكر تتحدد على ضوء الطائفية، كما أنها – الطائفية – هي التي تبرز وتحدد الشعور الخفي والمعلن، وهي التي تدفع أي طائفة من الطوائف إلى جعل مصالحها وأولوياتها فوق مصالح وأولويات الوطن. والطائفيون عادة وفي الغالب هم من أصحاب المواقف المسبقة والاستعداد المسبق لرفض الآخر والعمل على إقصائه بكل الطرق التي قد تبلغ حد تكفيره واستباحة دمه، فهؤلاء مهما ادعوا وحاولوا التظاهر بالديمقراطية ورفعوا شعارات مثل العدالة والمساواة والمظلومية هم في الواقع يمارسون نوعا من الخداع والتضليل ومحاولة ذر الرماد في العيون كما يقال، لأنهم في الأساس لا يؤمنون بهذه الشعارات ولا بقيمها الأخلاقية والسياسية، فالفكر والسلوك على أرض الواقع يكذب ويفضح ادعاءات هؤلاء المهووسين طائفيا، الغارقين حتى قمة رأسهم في وحل الطائفية. وهذه الممارسات هي التي أسهمت في جعل الاستقطاب المذهبي آلية من آليات الصراع والتنافس، بل جعلت منه الآلية الوحيدة بعد أن تراجع الاستقطاب السياسي والفكري وهذا الأخير هو الذي كان يجب أن يكون عنوان المرحلة الجديدة وشعار الانفتاح والديمقراطية، لأن التنافس السياسي هو الذي يمثل صدقية الحوار والحراك الديمقراطي الصحيح، وحين يتراجع الحراك السياسي لصالح الاستقطاب الطائفي والديني يعني أن هناك شرخا سياسيا واجتماعيا قد حصل، وان هذا الشرخ قد استدعى إقامة الخنادق والمتاريس الطائفية، وصارت الناس تبحث عن واجهات فئوية ومرجعيات طائفية تحتمي بها.إ ذاً في ظل هكذا وضع ليس من المنتظر أن يفرز غير هذه الصورة المشوهة للوطن والمواطن وللديمقراطية الوليدة على حد سواء، كما أنه ليس متوقعا أن نحصد سوى هذه النتائج الحاصلة الآن من توتر طائفي وعلل سياسية واجتماعية وغلو، إضافة إلى غياب القيم الوطنية والقومية ورفع شعارات الاستقواء بالخارج، وتنامي حالات الشحن والتجييش الطائفي وإثارة الضغائن وفتح الجراحات التاريخية ومحاولة إسقاطها على الحاضر الراهن. ما العمل إذًا؟ وكيف السبيل للخروج من نفق الطائفية المظلم هذا إلى رحاب الوطن؟ يقال عادة إنه لا سبيل لمواجهة مشاكل الديمقراطية سوى بمزيد من الديمقراطية، لذا نحن نقول إنه لمواجهة هذا الشرخ الحاصل في جسد الوطن لابد من إعلاء قيم الوحدة الوطنية والمضي قدما في بناء دولة القانون والمؤسسات الدستورية التي تحفظ حرية المواطن وتصون كرامته، وتهيئة الأرض لنمو وعي الاصطفاف السياسي في مواجهة الاصطفاف المذهبي، وذلك عن طريق تشريع قانون للأحزاب والتنظيمات السياسية لتقوم على أسس وطنية تمكنها من استيعاب العمل السياسي وتأطيره في إطار القنوات القانونية والدستورية الصحيحة لا القنوات الفرعية والفئوية. كما أن مسئولية القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني تأكيد حضورها ونشاطها اللذين يصبان في مجرى عميق الوعي الوطني، ونبذ كل مظاهر التمزق الطائفي بين صفوفها، بل إن هذه القوى مطالبة برفض وعزل كل العناصر التي تغذي التطرف الطائفي أو تلك التي تستلهم في تحركاتها بعض النماذج الطائفية في الحكم والفكر والسلوك والشعارات، كما أنه علينا أن نضع حد للعلاقة الملتبسة بين الدين والسياسية، وكذلك فهم دور ووظيفة دور العبادة والنأي بها عن الخلافات السياسية، وحفظ مكانة العلماء ورجال الدين بعيدا عن أجواء السياسة وألاعيبها ومناوراتها، كما يقول الدكتور محمد الجابري في كتابه الدين والدولة وتطبيق الشريعة يجب تحاشي توظيف الدين لأغراض سياسية باعتبار الدين يمثل ما هو ثابت ومطلق بينما السياسة تمثل ما هو نسبي ومتغير، كما أن السياسة تحركها المصالح الشخصية والفئوية، أما الدين فيجب أن يتنزه عن ذلك وإلا فقد جوهره وروحه، فالدين الإسلامي هو دين التوحيد والتوحيد على مستوى العقيدة والتوحيد على مستوى المجتمع، والتوحيد على مستوى فهم الدين وممارسته. أما السياسة فجوهرها وروحها أنها تفرق، والسياسة تقوم حيث يوجد الاختلاف، من هنا فإن ربط الدين بالسياسة أيا كان هذا الربط ودرجته يؤدي بالضرورة إلى إدخال جرثومة الاختلاف إلى الدين، والاختلاف في الدين إذا كان أصله سياسيا يؤدي بالضرورة إلى الطائفية، ومن ثم إلى حرب أهلية. ومن منطلق المسئولية الوطنية لجميع القوى والأطراف السياسية الرسمية والمجتمعية على اختلاف توجهاتها السياسية والفكرية مطالبة بالعمل على إيجاد أجواء الثقة ودفع العمل السياسي إلى رحاب الحوار والديمقراطية، والخروج باتفاق أو ميثاق شرف يلزم الجميع بالحفاظ على وحدة الوطن وبناء الدولة الدستورية التي تؤمن حقوق وحريات المواطنين، وتنشر ثقافة حقوق الإنسان واحترام حرية الرأي والفكر والتعبير. هذه في تقديرنا العوامل الكفيلة بحفظ وحدة الوطن بعيدا عن أي تمزقات طائفية أو هزات سياسية واجتماعية وبذلك وحده نستطيع التحدث عن نموذج وطني وديمقراطي، وبذلك فقط نقطع دابر كل القوى والعناصر المتربصة بهذا الوطن وبهويته الوطنية والقومية داخلية كانت أم خارجية، وإنقاذه من السقوط في المهاوي السحيقة للطائفية والعصبية العمياء.