بقلم: محمود القصاب
إذا ما أردنا قراءة المشهد السياسي واستشراف آفاقه المستقبلية في بلدنا، فإن ذلك يتطلب منا مقاربة صادقة وعادلة، واستحضار الحقائق كما هي موجودة وحاصلة على أرض الواقع ومن ثم سبر أغوارها والتعاطي معها سياسياً ووطنياً بعيداً عن أي شطط أو أوهام لا قيمة لها في العمل السياسي، كما يجب أن تكون هذه المقاربة مسنودة برؤية وطنية شاملة ومتزنة، تقدر أهمية وحجم اللحظة التاريخية التي يجتازها البلد والمنطقة، وتستذكر مجمل العلل والتداعيات السلبية التي خلفتها الأزمة والتي لا زلنا نعيش بعض فصولها وندفع أثمانها؟؟ لأنه بدون مثل هذا التوجه الوطني والموضوعي لا يمكن إعادة صياغة واقعنا ورسم صورة وطننا و مجتمعنا في إطار من التوافق الوطني الذي يلبي ويستجيب لتطلعات الناس والدولة على حدٍ سواء، وبما يؤمن ويصون وحدة بلدنا ويحمي استقلاله وسيادته في وجه كل التحديات والتدخلات الخارجية وإن مثل هذا الخيار أو المسار الوطني هو وحده القادر على طي صفحة الماضي، وفتح الأبواب أمام وطننا للانطلاق واستئناف الحركة لبناء دولة عصرية مدنية متطورة قائمة على مرتكزات تنموية شاملة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، إذ ليس معقولاً أن يبقى هذا الوطن محاصراً بأحداث 2011، سجيناً لتداعياتها الثقيلة. لذلك فإن مقاربتنا للمشهد السياسي في هذه الوقفة ترتكز على محورين أساسيين هما بمثابة قطبي الرحى في رؤيتنا الوطنية التي ننطلق منها الأول: داخلي يتعلق بحقائق واقعنا الوطني والسياسي وأولوياته وسبل وضع خارطة طريق للخروج من “العاصفة” والثاني: يتناول أحوال وظروف المنطقة وما تشهده من أحداث وتطورات تنعكس بشكل وأخر على واقعنا وتؤثر فيه سلباً وإيجاباً.
وقبل الدخول في تفاصيل هذين المحورين دعونا نشير إلى مسألة أو فكرة هامة ذات صلة بموضوعنا وهي: أن أي بلد يشهد نزاعاً سياسياً أو توتراً اجتماعياً ويعيش بسبب ذلك أزمات متكررة في العادة تتكون لديه حصانة أو مناعة تحميه من التفكك أو الانقسام، طالما أن العقل السياسي يحسن التعامل مع هذه الأزمات والتجارب بإرادة سياسية وروح وطنية هدفها تصويب الأخطاء وتصحيح كل الاختلالات في التوازنات القائمة على المستويين السياسي والاجتماعي. وعندما نتحدث عن “العقل السياسي” فإننا نقصد به توجه وسلوك كل الأطراف الفاعلة في الساحة الوطنية ، بدءاً من الدولة مروراً بالقوى السياسية على اختلاف انتماءاتها، وانتهاء بقوى المجتمع بكل مكوناتها وأطيافها. والبحرين كدولة ومجتمع لا يمكن أن يكون استثناءً عن هذه القاعدة السياسية والاجتماعية فكل الأزمات في هذه الدولة أو تلك يمكن أن تنتهي بانتهاء أسبابها، المهم توفر الإرادة السياسية كما أوضحنا قبل قليل، ومن ثم وجود الرغبة والقدرة على ترجمة هذه الإرادة إلى سياسات وقرارات جريئة وحاسمة لعلاج كل الشروخ والتصدعات الحاصلة وبناء واقع أفضل لوطننا ومجتمعنا، واقع تنصهر فيه كل الإرادات الوطنية وتستحضر معه كل أسباب الوئام والانسجام وتخطي كل الهواجس والشكوك التي افرزتها الأحداث المؤلمة.
وهنا يأتي دور المشروع الوطني الموحد الذي كثر الحديث عنه وينبغي أن يرتكز على قيم المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات وعلى مبادئ الحرية واحترام التعددية، وعدم النظر إلى الأصوات المطالبة “بالتغيير” و ”الاصلاح” بوصفها مشكلة أمنية يجب إخمادها بالقمع والاستئصال والتهميش. فقد أثبتت أحداث الماضي قصور وخطأ هذه الخيارات، لأنها تجعل إرادة المستقبل مشلولة وعاجزة مهما خلصت النوايا.
هذا الاستهلال ضروري ومهم في قراءتنا للمشهد السياسي الراهن، وهو كما نرى رغم ما يتسم به من تعقيد، وتداخل العوامل الداخلية والخارجية في رسمة وصياغته، وفي تحديد مالاته فإننا نؤمن يقيناً بأن المشهد يمكن أن يشهد تغييراً إيجابياً رغم المخاض الحاد الذي تعيشه المنطقة، نقول ذلك استناداً إلى إدراكنا لأهمية “اللحظة التاريخية” التي يجتازها بلدنا، وما تعنيه هذه اللحظة من فارق زمني بين حدثين الأول: ماضٍ له ما له وعليه ما عليه، والثاني: قادم بكل ما يمكن أن نتوقعه من “تطورات” و ”متغيرات” سياسية هامة سوف تلعب بدون شك دوراً حاسماً في رسم المشهد في الحاضر القائم والمستقبل القادم، وأحد أبرز وأهم هذه “المتغيرات الداخلية” هو تولي صاحب السمو الأمير سلمان بن حمد آل خليفة رئاسة الوزراء إلى جانب ولاية العهد. فهناك أغلبية شعبية تتلهف إلى “ومضة أمل” و “نقطة ضوء” في المشهد القادم، وتتطلع إلى أن يكون هذا “الحدث” أو “المتغير” باباً سياسياً واعداً يمكن الولوج منه لتحريك المياه الراكدة، والاقتراب من طموحات الناس والتجاوب مع ما يشغل تفكيرهم على المستويات السياسية والاجتماعية والمعاشية، وإعادة النظر في بعض السياسات والقرارات التي أرهقت كاهلهم، وضيقت أمامهم فرص الحياة الكريمة في ظل أوضاع اقتصادية ومالية بالغة الصعوبة والقسوة.
هذا يعني أن أولويات أي “تغيير” مطلوب أو “اصلاح” منشود يجب أن توجه نحو رغبات وتطلعات هؤلاء الناس، وأن تكون مفردات أو محاور هذا المشروع موجهة لعلاج أسباب حالة الانكماش والتراجع التي بلغت ذروتها مع إحداث 2011، مما يعني إننا نحتاج مراجعة شاملة للمسار السياسي الراهن، وتأسيس قواعد جديدة للعمل السياسي ومن ثم اختيار الطريق الذي يوصلنا إلى تنفيذ حزمة من الاصلاحات الضرورية في المجالات السياسية والدستورية والحقوقية. فالقاعدة الشعبية الواسعة والكبيرة التي تتطلع إلى هذا المسار، هي بدون شك قاعدة مؤيدة ومساندة لسمو ولي العهد ولكل قراراته التي يمكن أن تصب في هذا الاتجاه. وهي تقدر مساعي سموه نحو البحث عن الحلول الممكنة والعملية لمواجهة كل المعضلات التي يواجها بلدنا، خاصة في المجالات الاقتصادية والمالية، والتي علاجها الوحيد هو الاستقرار السياسي الذي يحتاج بدوره إلى وجود جبهة داخلية موحدة ومتماسكة وإلى وحدة وطنية راسخة وقوية تغلق دونها كل المنافذ والثقوب التي يمكن أن تتسلل منها تلك المخاطر والتحديات، دون أن ننسى أو نغفل طرف المعادلة الآخر، وهو الاستحقاقات العاجلة التي تفرضها هذه المرحلة، ونعني بها اصلاح العملية الديمقراطية التي تعاني من عدم التوازن لتستوعب كل القوى السياسية والاجتماعية و تخلق فضاءً سياسياً رحباً يرفض الإقصاء أو التهميش فالديمقراطية ليست انتخابات وصناديق اقتراع فقط، إنما هي مجموعة قيم وإجراءات إذا غابت تغيب معها الديمقراطية وفي مقدمة هذه القيم احترام التعددية السياسية والفكرية وكذلك احترام حرية الرأي والتعبير، وترسيخ مبدأ التعايش والتسامح إضافة إلى حرية النقد والمحاسبة على الأخطاء والتجاوزات متى ما حصلت، وهي حقوق قد أكد عليها الميثاق وكفلها الدستور، مروراً بالتصدي إلى بعض الملفات الوطنية التي لازالت عالقة تنتظر البحث والعلاج المناسبين، مثل ملف “المعتقلين” و”المسقطة جنسياتهم” و ”العاطلين عن العمل” وتوفير ضمانات تكافؤ الفرص، وكذلك ملف “الفساد” المالي والإداري، ومحاسبة الفاسدين وأخيراً لجم الأبواق الإعلامية التي تغذي خطاب الكراهية وتنشر الضغائن والأحقاد الطائفية أياً كان مصدرها.
هذه هي خلاصة المحور الأول الداخلي في هذه المقاربة، أما المحور الثاني فهو كما أشرنا يتعلق بالمعطيات القائمة في المنطقة، والتي تؤكد جميعها أن دول المنطقة مقبلة على تحولات كبيرة سوف تفرض معها تغييراً في المعادلات السياسية الراهنة وبدورها سوف تقود هذه الدول إلى إعادة ترتيب أولوياتها ورسم تحالفاتها وبناء شكل علاقاتها، سواء بين الدول العربية الخليجية نفسها أو مع محيطها الإقليمي والدولي، وسوف يكون دائماً الملف الأمني والعسكري هو الناظم والمتحكم في توجهاتها في ظل الأوضاع المضطربة، ولعل هذا ما يفسر أسباب ذلك الخطأ الاستراتيجي الذي اقدمت عليه بعض دول الخليج من بينها البحرين عندما سمحت بدخول ” الكيان الغاصب” طرفاً في المعادلة السياسية القائمة والتنسيق الأمني بين دول المنطقة في أعقاب قراراتها بتطبيع علاقاتها السياسية والدبلوماسية مع هذا الكيان الغاصب، وهو ما يمكن اعتباره ” سقطة قومية” إن جاز التعبير حرمت معها “الشعب الفلسطيني” من عمقٍ عربيٍ قوميٍ ظل عبر تاريخ “القضية الفلسطينية” يمد يد العون والدعم بكل صوره وأشكاله السياسية والمادية، إيماناً بعدالة هذه القضية وحق الشعب العربي الفلسطيني في تحرير أرضه وإقامة دولته الحرة المستقلة.
ومن بين مساوئ هذا القرار الذي يتعارض مع المصالح الوطنية والقومية، ويسهم في اختراق أمننا الوطني والقومي، إنه لن يجلب “الاستقرار” و ”السلام” المزعوم، كما يتم الترويج له. بل على العكس فأن كل المراقبين والمهتمين يؤكدون بأن المنطقة تشهد أوضاعاً صعبة وتعيش وسط أحداث خطيرة وتطورات متزاحمة وقد تحولت إلى ساحة مستباحة للقوى الإقليمية والدولية الطامعة، ولا يوجد في الآفق ما يشير إلى أن هذه التوترات ذاهبة إلى التراجع بل على العكس إن كل المعطيات و المؤشرات توحي بأنها سائرة نحو جولات جديدة من النزاع الإقليمي الجالب لمزيد من عدم الاستقرار في سياق ما يشبه إعادة ترتيب الخرائط السياسية في المنطقة، نقول ذلك ونحن نعلم للأسف بأن هناك بعض القوى غارقة في أوهامها السياسية حيث ترى بأن عودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض وسيطرتهم على السلطتين التنفيذية والتشريعية، مع ما تمر به بعض الدول من حالة عدم استقرار سياسي و أمني قد يعيد معها أشكال “عواصف” “الربيع العربي” من جديد، وهذا في تقديرنا رهان من بين تلك الرهانات البائسة والخاسرة حتماً، والتي تفتقر إلى الحس الوطني وينقصها الوعي والنضج السياسي.
وفي كل الأحوال فإن الواقع السياسي البحريني لا يمكن عزله عن محيطه الخليجي والإقليمي، وسوف تبقى قراراته مرهونة بشكل أو بآخر بالمتغيرات والتطورات في المنطقة. كما هو حاصل ويحصل دائماً في كل المحطات التاريخية.
هذان هما المساران اللذان لا يمكن إغفالهما في أية مقاربة للمشهد السياسي الراهن، والمهم هنا هو كيف نستطيع حماية وطننا ونصون وحدته وسيادته، وذلك من خلال الاعتماد أولاً وأخيراً على وحدة شعبنا وأرثه السياسي الوطني والتطلع إلى عمقنا الخليجي والعربي الذي لا مكان فيه ” للكيان الصهيوني” ولا إلى مكائده الخبيثة وأطماعه التوسعية.