في المواطنة…والوحدة الوطنية
محمود القصاب
لا أحد يجادل بأن «الوحدة الوطنية» إلى جانب عناصر أخرى مهمة من قبيل «السيادة» و «الاستقرار» تمثـِّل مكوناً أساسياً وجوهرياً لكل المجتمعات والدول، لذلك هي تحتل مساحة مهمة في فكر وأدبيات وفعاليات كل القوى السياسية على اختلاف توجهاتها السياسية ومشاربها الفكرية. ولعل التركيز في المقالة على هذه القضية نابعٌ من أهميتها ومحوريتها في هذا الظرف الصعب.
كما لا يجادل أحد في شكل العلاقة الطردية بين قوة وصمود المجتمعات والدول في مواجهة الأخطار الداخلية والخارجية، وقوة وصلابة الوحدة الوطنية، ذلك لأن أي مؤامرة خارجية (كثر الحديث عنها في الأزمة الأخيرة) لا يمكن أن تمر دون إحداث شرخ في جدار الوحدة الوطنية واختراقها.
وبقدر تعلق الأمر بحالتنا الوطنية الراهنة، كيف يمكن لنا أن نحدد مفهوم وآليات هذه الوحدة الوطنية التي ينشدها ويتغنى بها الجميع، بعد تواريها خلف جدران الاستقطابات الطائفية؟ وكيف السبيل إلى استرجاعها بعد كل ما جرى، وبعد هذا الشرخ الغائر الذي قسم المجتمع البحريني؟
هناك الكثير من الآراء ووجهات النظر المتباينة بشأن مفهوم المواطنة، إلا أن هناك اتفاقاً عاماً على اعتبار الوحدة الوطنية ركيزة أساسية من ركائز الوطن، ومسلمة من مسلمات تطوره، كذلك يتفق الجميع على أن أساس أي وحدة وطنية هو الإنسان (المواطن) الذي يعيش في هذا الوطن وقد ارتبط به تاريخياً واجتماعياً، ووجوداً كلياً.
كما أن هناك اتفاقاً أيضاً على ضرورة أن تحمل أو تستبطن الوحدة الوطنية أسباب ترابط الشعب بعضه ببعض، وأن هذا الترابط هو الذي يمنع أية انقسامات أو صراعات عنيفة قد تقود إلى دعوات انفصالية أو إقصائية، ومن أجل ضمان استقرار ودوام هذه الوحدة لابد من الوقوف على الأسباب التي تؤدي إلى ضرب أو تدمير هذه الوحدة. لذا فإن أكثر علماء الفكر والسياسة يتفقون على أن أهم تلك الأسباب هي غياب الحرية وانعدام العدل والمساواة، بالإضافة إلى غياب الأمن والاستقرار وكذلك شيوع حالات من التمييز بين المواطنين على أساس الانتماء السياسي أو الديني أو العرقي.
بعض أولئك المفكرين يضع الوحدة الوطنية في صورة عقد اجتماعي (جان جاك رسو) بين الشعب أو السلطة السياسية، بحيث يتوحد الشعب في وحدة مصيرية، وفي إطار من المسئولية المشتركة، يخضع فيها المواطن للحكومة أو السلطة القائمة، كونها حكومة عقد اجتماعي جاءت نتيجة رضا وقبول، وتمت بطوعية واختيار. وبذلك تكون هذه الوحدة حصيلة «إرادات» كل المواطنين وكل مكونات المجتمع، وخصوصاً عندما تقترن هذه الوحدة بالديمقراطية من خلال حكومة ديمقراطية.
ومفكر آخر (هيجل) يرى الوحدة الوطنية في طاعة واحترام القانون، في إطار الحرية المنبثقة عنه، على أن يتوافق القانون مع منطق العدل الذي هو منطق التاريخ.
ورأي ثالث (أبو حامد الغزالي) يرى أن «الوحدة الوطنية تتحقق من خلال (الحاكم) الذي يمثل الشعب وأساس وحدته، وكونه محور اتفاق الإرادات المتناقضة، وتأييد الشعب له من خلال تعاقد سياسي بينهم وبينه، على شرط أن يقوم هذا التعاقد على الرضا لا على الإكراه».
وفي ظل أجواء مضطربة سياسيّاً واجتماعيّاً تسود بلدنا في الوقت الراهن، لا بد من التعرف على الخيارات الحيوية التي نستطيع من خلالها تجاوز الحالة الراهنة، ومواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية، خيار تأكيد وتعميق الوحدة الوطنية ليس شعاراً أو حلماً رومانسيّاً بل عملاً حقيقيّاً وإيماناً صادقاً.
والخطوة الأولى المطلوبة في هذا السياق؛ هي التخلي عن لغة الشعارات الفضفاضة التي ليس لها معنى أو مضمون، في التعامل مع هذه القضية الحيوية، كذلك يجب تجاوز أو وضع حد لكل الخطابات والدعوات التي تقوم على الإلغاء أو الإقصاء لهذا الطرف أو ذاك، كما يجب وقف كل محاولات تجاهل التعددية والاختلافات الطبيعية بين مكونات المجتمع، أو النظر إليها باعتبارها عوائق للوحدة، أو مضادات للتوافق الداخلي. وأخيراً يجب مغادرة النظرة السطحية والساذجة للمجتمع البحريني التي تتحدث عن تناغمه وانسجامه كعائلة واحدة والاعتراف بحقيقة الصراعات والتباينات السياسية الموجودة، لأن المهم حصر هذه الخلافات في إطار وحدود السياسة، وتنظيمها وحلها بصورة ديمقراطية وإنسانية.
معنى هذا أننا بحاجة اليوم إلى تطوير مفهوم الوحدة الوطنية ليستوعب كل حالات الاختلاف في وجهات النظر، وأن يكون هذا المفهوم منفتحاً على كل الآراء وصولاً إلى حالة من التوافق الحقيقي وليس الشكلي، المنطلق من رغبه صادقة في معالجة الواقع، والمعبر عن احترام وجود كل التعبيرات السياسية والاجتماعية لكل مكونات المجتمع. فالوحدة الحقيقية والصلبة لا يمكن أن تعيش وتتواصل إلا في ظل التنوع والاختلاف المشروع، والتي تبدأ من الاعتراف بالآخر وجوداً وفكراً.
بهذا المعنى، وأمام الظروف الدقيقة والحساسة، مطلوب منا جميعاً تجاوز كل ما يحول دون الوصول إلى هذه الوحدة، وأن نسعى إلى خلق المبادرات الوطنية في هذا الاتجاه، وخلق الأجواء المناسبة وبالشكل الذي يساعدنا على استعادة وحدتنا الغائبة أو المغيبة قسراً، بفعل بعض السياسات المتشنجة والخطابات الموتورة.
مختصر القول إنه إذا أردنا مقاربة تلك الأفكار والتصورات بصورة جادة فاعلة، نستطيع التأكيد على أن الوحدة الوطنية طالما أنها تقوم على المشتركات الاجتماعية والثقافية بين أبناء الوطن الواحد؛ فـالواجب يفرض علينا حكومةً وقوى مجتمع، إسناد وتقوية هذه المشتركات لا إضعافها أو تدميرها. وهذا ممكن ومتاح من خلال الاتفاق على مشروع وطني يتم إنجازه برضا وتوافق الجميع. مشروع يؤسس لشراكة حقيقية وفعلية على أساس المواطنة الكاملة، وصيانة حقوق الإنسان، واعتماد مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين في المجالات السياسية والاجتماعية والمعاشية كافة، ويكون استكمالاً وتطويراً للمشروع الإصلاحي الذي أطلقه جلالة الملك قبل عشر سنوات.
إن قضية الوحدة الوطنية، كما في كل القضايا، لا شيء يأتي من لا شيء كما يقال، فالوحدة والشعور بالانتماء إلى الوطن يأتي دوماً نتيجة التزامات غاية في الأهمية والضرورة مثل الشعور بالمواطنة الكاملة المتساوية حقوقاً وواجبات، ولا شيء يصون الوحدة ويحمي مكاسبها مثل مفهوم المواطنة الكاملة.
في ظروف معينة قد يجبر المواطن على الطاعة والصمت وهو مغلوب بسطوة القوة والقهر، لكن في كل الأحوال؛ فإن الانتماء التام والولاء الكامل للمجتمع والدولة لا يمكن تحقيقه في غياب العدالة والمساواة. وليس هناك أي معنى للوحدة الوطنية التي تفرض بالقوة وتسوم الناس أصناف العذاب والهوان، وتعتمد الخيار الأمني خياراً وحيداً ونهائيّاً.
فالوطن ليس قطعة أرض، أو علماً يخفق، أو نشيداً وطنيّاً يغنى. إنه فوق هذا وقبل هذا أمنٌ من خوف وإطعامٌ من جوع، أما دفع الناس دفعاً للقبول بما يفرض عليهم ورفض اعتراضاتهم وشكواهم، فهو من قبيل رمي المواطن في البحر وهو مقيد، والطلب منه أن لا يبتل بالماء.
إن الشعور بالولاء للوطن مرتبط حتماً بمكانة المواطن وكرامته في وطنه، وبقدرة هذا الوطن على إنصافه ومكافأته عندما يعمل ويصيب، وعدم المبالغة أو الشطط في عقابه عندما يخطئ، فلا خير في وطن لا ينصف ولا يرحم مواطنيه.
من المهم أن يشعر المواطن أن الدولة في كل الظروف، ومهما حصل، تقف على مسافة واحدة من جميع المواطنين، أما الشعور بأي شكل من أشكال الحيف والظلم، فذلك سيقود حتماً إلى فرز واقع سياسي واجتماعي شديد القتامة والسوء، وسيلقي بالتأكيد بظلاله السلبية على الوحدة الوطنية. لذلك نؤكد على دور ومسئولية الدولة بالدرجة الأولى في تحقيق التعايش السلمي وبناء الوحدة الوطنية، من خلال خياراتها وسياساتها التي تلعب دوراً أساسيّاً في توفير «المناخ» الوفاقي المتسامح بين جميع مكونات المجتمع، أما العنف والإقصاء، وقطع الأرزاق، والعقاب الجماعي، فذلك يمثل أقصر الطرق لتفكيك المجتمع وشرذمته، وتدمير وحدته الوطنية.
وهناك حقيقة أساسية يجب عدم إغفالها أو التغاضي عنها، وهي أن أي نظام سياسي لا يمكن أن يخلق وحده شروط ومتطلبات الوحدة الوطنية، إنما هو بحاجة دائمة إلى جهد الشعب بكل أطيافه باعتباره المكون الأساسي للدولة، فالشعب برموزه السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية، وبكل فعالياته السياسية، يمثل ركناً أساسيّاً في تعزيز التماسك الداخلي وتعميق خيار التوافق الأهلي. وهنا يأتي دور الدولة في توفير مثل هذه الأجواء التي تجعل الشعب راغباً ومؤمناً بهذا الخيار.
وهذه الحقيقة تفرض على كل أطياف المجتمع التزامات غاية في الأهمية، وفي المقدمة منها قبول هذه الأطياف بعضها بعضاً، نفسيّاً وعقليّاً وسلوكاً، فالقبول يعني بالضرورة الاعتراف بالآخر وجوداً وفكراً ومشاركة، واحترام ما يمثله من توجه، وما يميزه من مواقف. من هنا تبرز أهمية العلاقات بين مختلف مكونات المجتمع، على قاعدة التعايش والتسامح، والتعددية، وصيانة حقوق الجميع، والشراكة الوطنية.
فالوحدة الوطنية تقوى وتترسخ بهذه القيم فقط باعتبارها بوابة توفير الظروف الملائمة، سياسيّاً ونفسيّاً، وخلق بيئة اجتماعية ووطنية قادرة على تجاوز كل إكراهات الماضي، ومرارات الحاضر، وقادرة أيضاً على طي كل محطات التوتر والهواجس والشكوك القديمة منها والحديثة.
وبعد كل ذلك؛ يأتي الحوار الحقيقي بصفحته التالية من تحت عباءة هذه الوحدة وتحت مظلتها وكمقوم أساسي من مقوماتها. بذلك نكون قد قطعنا أولى الخطوات المطلوبة من أجل إزاحة الكابوس الجاثم على صدورنا جميعاً، والبدء في صياغة مستقبل أفضل للبحرين العزيزة التي نعيش على أرضها ونستظل بسمائها، وعسى الكرب الذي أمسينا فيه يكون وراءه فرج قريب