د. يوسف مكي
وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، قول الحق عز وجل، وفي المأثور الشعبي «رب ضارة نافعة». هذا هو بالدقة ما فعله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حين أصدر قرار نقل سفارة بلاده، لمدينة القدس، متحدياً مشاعر أكثر من 350 مليون عربي، ومليار ونصف من المسلمين، عدا المناصرين للقضية الفلسطينية العادلة، في كافة أرجاء العالم.
لم يكن ترامب، ولا دولة الاحتلال من خلفه، يدركون أنهم أعادوا ملف القضية الفلسطينية، مجدداً وبقوة إلى الواجهة. وطرحوا أهمية مراجعة القرارات الفلسطينية، والعربية المتعلقة بما أطلق عليه بمسيرة السلام، التي بدأت في الواقع، منذ انتهاء حرب تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973، وبلغت أوجها بتوقيع اتفاقية أوسلو عام 1993.
ومنذ ذلك التاريخ، وحتى يومنا هذا وحلم الفلسطينيين، في تأسيس دولتهم المستقلة فوق التراب الوطني الفلسطيني، وتحرير مدينة القدس، وعودة اللاجئين إلى ديارهم، لا يزال مجمداً، والاحتلال، يواصل بناء المزيد من المستوطنات الصهيونية، ويصادر الأراضي والممتلكات، ويهدم بيوت المقاومين، ويقيم الجدران العازلة.
ما يطالب به الفلسطينيون، هو حق تقرير المصير، وهو حق كفلته شرائع الأرض والسماء. وأقرته مبادئ الأمم المتحدة، وأصدرت فيه كثير من القرارات. وما حال دون تنفيذه، منذ الاحتلال الأخير للأرض الفلسطينية، عام 1967م، حتى يومنا هذا هو التعنت الصهيوني، والمساندة الأمريكية الفاقعة، لغطرسة الاحتلال.
وقد بلغت قمة المساندة لهذه الغطرسة، بقرار الرئيس ترامب الأخير، الذي شكل اعتداءً صارخاً، ليس فقط بحق الفلسطينيين، وإنما بحق مشاعر العرب جميعاً، بكافة طوائفهم ومعتقداتهم، كما شكل اعتداء على المسلمين والمسيحيين، في العالم، الذين يجتمعون في النظر إلى المدينة المقدسة، باعتبارها تختزن موروثاً تاريخياً عظيماً، وتربطهم، بها علاقات وجدانية، وروحية لا تنفصم. وكانت ردة الفعل الغاضبة، في جميع البلدان العربية والإسلامية، تجسيداً، لهذه العلاقة، ولارتباط شعوبها الكبير بالمدينة المقدسة.
مصادرة القدس العربية، هو تنكر لكل القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، وهيئة الأمم المتحدة، التي أكدت الحفاظ على الموروث الثقافي الإسلامي والمسيحي، بمدينة المدائن. والقبول بذلك، هو تخلٍّ عن أمانة تاريخية، منوطة بالأمة العربية، التي حافظت تاريخياً، على حرية الأديان والمعتقدات.
والمصادرة هي استمرار لنهج عنصري وتوسعي، هو مبرر الأساس، لوجود دويلة غاصبة، منذ تأسيسها على الأرض الفلسطينية. وهي تحمل معنى خطيراً، في حالة السكوت عنها وتجاوزها، خلاصتها أن من يتخلى عن القدس، يتخلى عن كل ما تبقى من فلسطين، وأن من يتمسك بها، ويدافع عن عروبتها، يملك قابلية التمسك بالحقوق الفلسطينية، وعلى رأسها حق تقرير المصير.
رب ضارة نافعة، فقد بعث ترامب بقراره الخطير هذا، الروح لجسد عربي، تشظّى في السنوات الأخيرة، وانشغل الجميع بالفتن التي عمت المنطقة بأسرها، وتسببت في تفسخ كيانات، وضياع هويات وأوطان.
نفخت المدينة المقدسة، الروح مجدداً في الوجدان العربي، وحققت عملية تطهير للنفس العربية، وأعادت توجيه البوصلة نحو فلسطين.
وكما كانت فلسطين، في التاريخ المعاصر، عنصر توحيد، لكل الجهود العربية، ومصدراً من مصادر الشرعية للنظام العربي، فإنها تمارس من جديد دورها التاريخي، في تأكيد الحضور العربي.
صحيح أنه خلال النضال العربي، من أجل تحرير فلسطين، طوال العقود السبعة المنصرمة، لم نتمكن من إلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني، لكننا بقينا جسداً موحداً، في انتمائنا ووجداننا، وفي تحلقنا حول هذه القضية المقدسة. وكأن قدر هذه الثاكلة أن توحدنا في الثقافة والوجدان. وحين يتخلى العرب عن هذه القضية، تبعث النعرات الطائفية، والقبلية والعشائرية، ويعم الخراب، وتسود الفتنة.
لقد حققت المدينة المقدسة لنا، في أيام، ما عجزت عن تحقيقه الجيوش والمؤتمرات، في سبع سنوات عجاف من خريف الغضب. هتف الجميع، معارضون وموالاة، في كل مواقع الوطن العربي، لعروبة المدينة المقدسة. ويكفي أن تكون القدس بلسماً لجراحاتنا، ولتجاوز حاضرنا المكبل بأغلال الهويات ما قبل التاريخية، التي قهرتنا وسحقتنا وأخذت من كرامتنا، وشتتنا شذر مذر.
وكلما استمرت المواجهة بيننا وبين المحتل، كلما تطهرت نفوسنا، وتعززت وحدتنا. وكلما تحقق ذلك، كلما اقتربنا من التغلب على عناصر الخوف والردة في نفوسنا، قيادات وشعوب.
عندها، سنكون أكثر اقتداراً، ليس فقط على تحرير أراضينا المغتصبة، بل أيضا سنكون رقماً صعباً في المعادلة الدولية، التي كانت دوماً وباستمرار بالضد من حقوقنا، ومن رغباتنا في التنمية والوحدة، والمشاركة بفعالية في المسيرة الإنسانية الصاعدة إلى أمام.
بقاء القدس، تحت هيمنة الاحتلال، واعتراف أمريكا وغيرها بها عاصمة للعدو، لن يغير من الواقع شيئاً، ما دام في الأمة عرق ينبض، ولسوف تبقى هذه المدينة فلسطينية وعربية، كما كانت طوال تاريخها المجيد. ولن يكون بوسع المحتل، تغيير حقائق الجغرافيا والتاريخ.
لن يكون هناك تهويد للقدس، ولن تلغى هويتها، طالما استمر الصمود الفلسطيني، والالتفاف الشعبي والرسمي حول هذا الصمود… إنها لحظة مراجعة حقيقية لمسيرة عقود من الخيبات. وليس المطلوب في هذه اللحظة الفارقة من التاريخ العربي، سوى العمل على تأكيد المؤكد….
القدس، مدينة الأقداس، وأم المدائن، أرض عربية..