الدكتور خضير المرشدي
يقال ان أفلاطون هو أول من استخدم مصطلح الأوليغارشية أو الاوليغاركية في السياسة والحكم، وتعني (حكم القلة) المتنفذة مالياً أو إقتصادياً أو عسكرياً أو إعلامياً أو حزبياً أو دينياً أو طائفياً أو عائلياً أو قبلياً أو القلة المدعومة من جهات أجنبية، أو التي تستمد قوتها من مجموع هذه العناصر أو بعض منها وتحت غطاء ممارسة الديمقراطية بأي شكل من أشكالها، ففي كتابه (الجمهورية) وضع أفلاطون ثلاث مستويات أو أنواع من الدولة منها الدولة المثالية (جمهوريته)، والدولة الديمقراطية، والدولة الأوليغارشية التي وضعها في المستوى الثالث قبل دولة الطغيان والاستبداد والديكتاتورية المطلقة ثم توسع في كتابه (السياسة) بتوصيف الدول ليضع منها ستة مستويات، ثلاثة منها تحترم القانون وتلتزم به، وثلاثة لا تلتزم بقانون ولا تعترف بدستور، الا بما يحقق مصالح الطبقة الحاكمة التي سماها (الأوليغارشية). أما أرسطو الذي جاء من بعده فقد وضع تفاصيل لمواصفات (حكم القلة)، واشترط فيمن يحكم أن يكون ذو قدرة مالية، وإن طبيعة السلطة ونوع الحكم يتوقف على مايملكه الحاكم أو الطبقة الحاكمة من الثروة والمال، وأضاف كلما توسعت الملكية وكثرت الثروة، كلما اتسعت السلطة الأوليغارشية، وبهذا فإن أرسطو جعل منها صفة ملازمة لحكم الاثرياء… وفي عصرنا الحديث أصبحت الأوليغاركية لا تقتصر على حكم الأثرياء فقط، وإنما شملت صفات اخرى تجتمع حولها القلة، أو تلتقي في أطارها لتصنع الزعيم أو المجموعة الحاكمة في بلد ما، والتي تنتهي دائما ببروز ظاهرة الطغيان والاستئثار بالسلطة والهيمنة على القرار وان كانت في اطار ممارسة ديمقراطية بشكل أو بآخر!!!
فلقد توسع مفهوم الطبقة الأوليغارشية ليشمل مثلاً الفئات المصنوعة في مختبرات دول أجنبية والمستقوية بنفوذها وليس لها من رصيد جماهيري في بلدانها، أو تلك التي لديها متراكم من الثروة وان كان مصدرها السرقة والفساد، ومن بينها من يعتمد على دعم العائلة أو القبيلة أو العصابات المافيوية، أو يعمل بالاعتماد على دعم المؤسسة الدينية أو التركيبة الطائفية أو المذهبية المؤيَدة والمحمية بقطيع من المنتفعين والفاسدين وسرّاق المال العام، ومنها فئة تستقوي بقوة ميليشيات سياسية أو مسلحة لاتحترم قانون ولا تلتزم بنظام. وفي الدول الكبرى فإن تلك الفئات تتشكل من كارتلات مالية وصناعية وعسكرية واعلامية ضخمة… حتى بات مصطلح (الاوليغارشية، Oligarchies) تاريخياً يقترن بوجود الميليشيات السياسية والمجموعات المسلحة، والكارتلات الكبرى المهيمنة على مصادر الثروة والاقتصاد والاعلام والقرار… وإقترن وجودها أيضاً بنشوء الطبقة الأرستقراطية المنظمة التي دائماً تنتقي الأقوى والادهى لتنفيذ سياساتها وحماية مصالحها وإدامة هيمنتها، وكثيرا ما يستعان بمرتزقة يبيعون ولاءهم بالمال والسلاح لتحقيق هذا الغرض.
عند تطبيق هذا المفهوم على واقع أنظمة الحكم العربية نجدها في الغالب تمثل نموذجاً من نوع ما من أنواع حكم الطبقة الأوليغارشية، ابتداءا من الطبقة الحاكمة في العراق بعد الاحتلال حيث تتركز السلطة بيد فئة مستقوية بالمؤسسة الدينية والطائفة والميليشيات السياسية والمسلحة والثروة وبدعم قطيع من المرتزقة، مما يفسر تدوير ذات الوجوه في السلطة رغم الادعاء بالممارسة الديمقراطية!!!
وفي لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية واتفاق الطائف، نجد إن الطبقة الحاكمة هي ذاتها منذ عشرات السنين يعاد إنتاجها (ديمقراطياً) وفق تمترس طائفي مهيمن على السياسة والثروة والسلطة، وفي أقطار الخليج العربي نرى نموذجاً آخر من هذه الطبقات (القلة) المسنودة عائلياً وقبلياً. أما في مصر والجزائر فنجد مفهوماً للقلة تمثله قوى نافذه وعميقة تقف وراء اختيار الفئة الحاكمة وإن كانت في ظل ممارسة ديمقراطية وفق مبدأ(ثنائية الارنب والغزال).
أما على المستوى الدولي، فإن حكم القلة الاوليغاركية مركب ومعقد، بحكم التركيبة السياسية المعبرة عن مصالح الشركات الكبرى صاحبة النفوذ والمال والاقتصاد والاعلام والتسليح، ولعل نظام الحكم في الولايات المتحدة الامريكية يمثل نموذجها الاول كما يرى عدد من مفكري ومنظري السياسة الدولية في ألولايات المتحدة وكما تؤكده طبيعة الحياة السياسية المعروفة في هذا البلد من إن المعسكر الصناعي التسليحي الاقتصادي المالي الإعلامي، هو من يحدد نوع السلطة ويؤثر في الرأي العام لاختيار الرئيس وتحديد سياساته اللاحقة وإن تم ذلك بممارسة ديمقراطية مبهرة. فبهذا الخصوص كتب (سايمون جونسون) الكاتب الامريكي الشهير، ان إعادة تشكيل النظام الأوليغاركي المالي في أمريكا قد حصل بالفعل، كما إن الُمنظّر السياسي (جيفري وينتر) كتب في الواشنطن بوست ((يمكن للأوليغاركية والديمقراطية أن تعملا معاً ضمن نظام واحد وإن النظام الأمريكي هو مثال حي لتفاعل هذين العاملين))، وقد عارضه في هذا الرأي السياسي المخضرم المستقل (بيرني ساندرز) الذي أسقطه الحزب الديمقراطي كمنافس لهيلاري كلنتون كمرشح عن الحزب للرئاسة، حين قال (إن الطبقة العليا من العائلات الثرية في ألولايات المتحدة تعقد العزم على تدمير الرؤية الديمقراطية للمجتمع الامريكي التي جعلت من أميركا دولة في موضع إعجاب العالم في هذا الجانب، وفي مرحلة انتهت مع نهاية القرن الماضي)، وأضاف إنهم ساهموا في خلق طبقة (الأوليغارشية) التي يشارك فيها عدد قليل من العائلات للسيطرة على الحياة السياسية والاقتصادية في أميريكا وقد إتضحت معالمها في بداية القرن الجديد حيث أن معظم القيادات السياسية والصناعية والمالية والقانونية في أميركا هم من خريجي جامعتي هارفارد وييل , فمثلاً نلاحظ إن جميع الأعضاء التسعة في المحكمة الدستورية العليا الحالية هم من خريجي كليات الحقوق في جامعة هارفارد أو ييل، وإن من بين اعضاء الطبقة الأوليغارشية في العقدين الاخيرين عوائل قد حظيت بالسلطة والثروة معاً بدعم من المعسكرات الاقوى في الولايات المتحدة يتقدمها معسكر المال والاقتصاد والاعلام والصناعة والسلاح ومنها عائلتي بوش الأب والابن، وكلينتون الزوج والزوجة وفريقيهما.
مايهمنا في هذا المقال هو ليس تقييم طبيعة الحكم سواءا كان مركزياً أو ديمقراطياً حقيقياً أو اوليغارشياً أي بمعنى الاستئثار بالسلطة وبممارسة تبدو ديمقراطية ولكنها مرسومة وموجهة ولربما هناك من يصفها بالمزيّفة أو حتى تزويرها إن إقتضى الامر لضمان فوز من وقع عليه الاختيار من قبل (القلة) كما حصل مع (بوش الابن) في ولايته الاولى،،، وذلك لأَنِّي مؤمن تماماً بأن العالم المعاصر لايستوعب نظاماً مثالياً للحكم كما يتمناه أفلاطون في جمهوريته، أو نظاماً ديمقراطياً حقيقياً يحقق العدل والكرامة والمساواة وتكافؤ الفرص والانصاف ومتطلبات الحياة الحرة الكريمة لمواطنيه، لأن مقياس النجاح والفشل لأي نظام حكم هو في ما يحققه لمواطنيه من سعادة وكرامة وأمن وسيادة وإستقلال ومنجزات وخدمات… ولكن الذي أود التركيز عليه ومما دفعني لكتابة هذا المقال هو ماذكره (باول كريغ روبرتس Paul Craig Roberts) رئيس معهد السياسية الاقتصادية في أميركا تحت عنوان (The Working Class Won The Election) أي (فوز الطبقة العاملة في الانتخابات) والمنشور بتاريخ 9 نوفمبر 2016، وجاء فيه أن (هيلاري كلنتون) تعتبر أحد عناصر الأوليغارشية الامريكية، وإن فوز ترامب يعتبر انتصارا للطبقة العاملة وخرقاً لقواعد اللعبة الانتخابية في أميركا وتحدياً لتوجهات طبقة (الأوليغارشية) الامريكية، كونه قد فاز وهو من خارج هذا المعسكر الذي يقف دائماً وراء صناعة الرئيس وتحديد مسارات سياساته المستقبلية، وخلص الى القول إن ذلك قد يؤدي الى (إغتيال) الرئيس فيما لو خالف توجهات هذا المعسكر الاوليغارشي أو إختط لنفسه طريقاً غير ماهو مرسوم ومقرر في الاستراتيجية الامريكية، مثله في ذلك مثل الرؤساء الامريكان السابقين الذين قضوا إغتيالاً بسبب خروجهم عن هيمنة وتوجهات هذا المعسكر!!!
والنتيجة المتوقعة أن سقوط هيلاري كلنتون لايعني سقوط (القلة) المتنفذة، واذا توجه الرئيس الجديد ليكون تصالحياً وأن يمسك بيده ويتجانس مع المؤسسة والمعسكر المهيمن، فإنه سيخيّب آمال الناخبين وهذا ثمن كبير سيدفعه لاحقاً، في بلد تآلفت مؤسساته بصورة كاملة مع القلة الأوليغارشية والمعسكر المهيمن،،، واختتم مقاله بجملة خطيرة (يصعب تحقيق تغيير حقيقي دون إراقة الدماء)!!.
إن التأييد الذي يفتقر اليه الرئيس الامريكي المنتخب من قبل هذا المعسكر اذا ما أستمر دون تغيير، فإن المستقبل القريب سيكشف لنا مفاجآت من وزن ثقيل وربما سيفاجأ العالم بخبر عدم صلاحية الرئيس لإدارة البيت الأبيض في أحسن الأحتمالات!!! لكن إختيار طاقم الادارة الجديدة يوحي بعملية مصالحة وتجانس مع هذا المعسكر الرهيب الذي افسد كافة المعاهد والمؤسسات الامريكية.