د / يوسف مكي
ليس جديداً القول إن الأشياء تدرك بنقيضها. فالشيء يعرف بما يغايره، وما يميزه من الأشياء. والحديث عن هوية شعب أو أمة، هو حديث عن خصائص تاريخية ولغوية ونفسية معينة، تفصل بين جماعة من الناس عن الجماعات الأخرى.
هذه الخصائص هي نتاج تفاعل بين تقاليد وثقافات تراكمت طويلاً، وهي أيضاً انعكاس لتفاعل مع وضع عالمي فوار، وموجات ثقافية ممتدة، ونماذج حضارية، تنتج عنها ردود فعل ذاتية. ذلك يعني أن الهوية لا تتكون نتيجة الرغبة في العيش والبناء المشترك، بل نتيجة وضع أنشأه التاريخ. لذلك فهي ليست شيئاً ساكناً، كونها نتاج حركة وتعاقب.
تتشكل الهوية، من الأدنى، وتتدرج صعوداً إلى الأعلى. فالفرد يولد في منزل، يصبح بالنسبة إليه مركز العالم. ثم يتدرج رويداً رويداً، إلى الانتماء إلى عشيرة وقبيلة، فمجتمع. وكلما تعزز الاجتماع الإنساني، توسعت دائرة الانتماء، وأخذ الانتماء إلى الجماعة والوطن، حصة الانتماءات الأخرى. وحين يتعزز الانتماء إلى الوطن، تتراجع الانتماءات الأخرى، لصالح الهوية الجامعة، هوية الوطن.
ومع اتساع دائرة الانتماءات إلى الوطنية، تنكمش تقاليد وثقافات. يتغير مفهوم البطولة من الدفاع عن القبيلة واستحضار لذاكرة الأطلال، إلى دفاع عن الوطن وأمنه واستقراره، وسيادته وكرامته.
في واقعنا العربي، تكتظ مجتمعاتنا، بأقليات قومية، وطوائف، وشبكة من العلاقات القديمة. وتختزل ذاكرتنا انتماءات إلى حضارات سحيقة، كانت لها إسهاماتها في التطور الإنساني. لكن الحركة التاريخية تجاوزتها منذ زمن بعيد.
بعض الأقليات القومية والطوائف المذهبية، لها (فولكلورها) الخاص، وتقاليدها الخاصة، وليس في ذلك ضير، إذا لم يكن على حساب الهوية الوطنية والقومية. فهذا التنوع قوة، حين لا يكون على حساب الانتماء إلى الهوية الجامعة، أما حين يكون عبئاً عليها، فإن التنبه لمخاطر ذلك على الأمن الوطني يصبح مهمة وطنية وقومية، لا مجال للمجاملة والتسويف حولها.
الهويات الجزئية، ينبغي أن تصب مياهها النقية في مجرى النهر الأكبر. أما أن تكون مياهها آسنة، فإن ذلك يستوجب مراجعة واعية للموقف منها، بهدف تنقيتها من الترسبات المعوقة للنهضة، والتي تهدد وحدة الوطن وأمنه واستقراره.
وبديهي أن تجاوز شبكة العلاقات القديمة، هو الذي يتكفل بتشكيل بنيات جديدة على أسس مدنية، تختزن في رحمها مخاض الولادة لهوية، تقوم على أساس المصالح المشتركة، وتصبح تعبيراً عن خصوصية وملامح المرحلة الجديدة.
لقد أفرغ التطور التاريخي، الهويات الجزئية من مبررات وجودها، وجعل من تجاوزها أمراً ملحّاً، إذا أريد للأمة أن تحقق نهضتها. إن التشبث بالهويات الصغرى، هو فعل معوق لمشاريع التنمية والنهضة، وعامل تفتيت وفرقة. وهو بالضد من تحقيق الأهداف والتطلعات المشتركة.
في الهوية الجامعة: يصبح الحديث عن الدولة المدنية، تطابقاً بين المعنى والواقع وبين المضمون وتماهياته، إذ وظيفة الدولة رعاية مصالح المجتمع بأسره. أما الهويات الجزئية فإنها، عوم في مواجهة التيار. إنها تستمد مشروعيتها من العودة السحيقة إلى التاريخ، ليس في عناصره الحية، بل في اتجاهات ناكسة، ومعادية للمستقبل. وفيها أيضاً، حديث تفاعل مبدع، بين الزمان والمكان، فتصبح الهوية نتاج تفاعل خلاق بين العناصر الحية في التاريخ، لإثراء وتخصيب مجالات العمل. وهي بطبيعتها نقدية، تؤمن بالعلم الحق والعمل الحق، وكل شيء خاضع للتحليل والبرهان. ولذلك تتواصل عملية الكشف، لخلق مستقبل أفضل.
لقد تراجع الفكر القومي، من نكسة (يونيو/ حزيران1967) ومع تراجعه تراجعت الدعوات للوحدة العربية، واتهم المتمسكون بعروبتهم، بالتمسك بمواقف عدمية أو خشبية. وبرزت حقبة التنظير للكيانات الوطنية. وخلالها طور الفكر القومي رؤيته للدولة القطرية، ولفكرة الوحدة. أصبحت الدولة الوطنية قاعدة يبنى عليها، للوصول إلى الأعلى، بدلاً من النفي المطلق لها.
تم النظر للدولة الوطنية، كظاهرة تاريخية، ليس بالمقدور تجاوزها إلى الأعلى، إلا بخلق مناخات اقتصادية واجتماعية وسياسية تمكن من ذلك. وأن الأساس هو بناء هذه الدولة، حتى تصطدم بالحاجة لتوسيع أبعادها مع غيرها من الأقطار العربية، في تكامل اقتصادي وسياسي.
الدولة الوطنية العربية، مثقلة بالكثير من المشاكل، ولا يستثنى من ذلك بلد من دون آخر. ووحدة هذه البلدان في أوضاعها هذه، أشبه بجمع أصفار. والمعالجة الصحيحة، تأتي في تنمية موارد وإمكانات الدولة الوطنية، إلى أن تحين لحظة الحاجة لتخطي الحدود الوطنية، وصولاً إلى الوحدة.
لكن تطورات ما بعد «الربيع العربي»، تفرض مراجعة نقدية جديدة. لقد أصبحت الدولة الوطنية أوطاناً، وتفتت بعض هذه الكيانات عدة دول، ومشاريع التفتيت لاتزال مفتوحة على أبوابها.
بات من الضروري مراجعة مفهوم الهوية الوطنية. أين هي حدودها التاريخية والجغرافية والسياسية؟ وما هي قابليتها للثبات؟.
لقد أكدت التجربة التاريخية أن الكيانات الصغيرة، هي الأضعف، في مقابل استحقاقات التنمية، وأن المجتمعات التي تطمح إلى مضاعفة قدراتها التنموية، تلجأ إلى الاندماج بكتل أكبر. وكان نشوء الدول القومية، في حينه تعبيراً عن صعود طبقة المستقبل، وتصميمها على كسر الحواجز الجمركية، والدخول في اقتصادات الأبعاد الكبيرة.
لا مناص للخروج من مأزق التشظي الراهن، من هوية ثقافية عربية جامعة، تملك القدرة، على الصمود، في ظل التحولات السياسية الهائلة التي تجري في منطقتنا ومن حولنا. ولعل العروبة كهوية ثقافية، هي مشروع الخلاص في مواجهة الاحتراب الراهن.