د. يوسف مكي
لم يكن تراكم النفايات، في العاصمة اللبنانية، بيروت، والمناطق التابعة لها، سوى القشة التي قصمت ظهر الجمل. فلبنان ينوء منذ استقلاله بأزمات سياسية حادة تسببت في حروب أهلية عديدة. وفي الحركة الاحتجاجية الحالية، لا يستثني المحتجون من غضبهم قوة سياسية بعينها، بل يشملون الجميع. فكل المحاور السياسية المشاركة في الحكم، من وجهة نظرهم، مسؤولة عن جرائم الفساد.
هناك إجماع بين جميع اللبنانيين، على وجود أزمة حقيقية في البلاد، ومن النادر أن تجد سياسياً واحداً، يدافع عن الأخطاء والتقصير. فكل طرف يعترف بفداحة الموقف، مبرئاً نفسه، ومحملاً الآخرين تبعة ما يجري. والكل يرسل أفراداً تابعين لحزبه أو حركته، ليشاركوا في التظاهرات الاحتجاجية.
كان الاحتجاج على تراكم النفايات في قلب العاصمة، هو بداية الحركة، تحت شعار «طلعت ريحتكم». ومطلبها الرئيسي هو انتخاب رئيس للجمهورية، باعتباره، وفقاً للدستور اللبناني أهم موقع تنفيذي في البلاد. ومن وجهة نظر المحتجين، فإن شغور منصب رئيس الجمهورية، يمثل خرقاً واضحاً للدستور. ورغم أن الحركة في مراحلها الأولى بدت عفوية، لكن دور المنظمات غير الحكومية فيها سرعان ما تكشف وصار واضحاً.
المنظمات غير الحكومية، تضم الجمعيات والحركات والأحزاب التي تتلقى دعماً مالياً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وتتهم باستمرار، بأن دورها هو تنفيذ الأجندات الأمريكية بالمنطقة. وكانت حاضرة في ميادين مصر، أثناء الثورة التي أطاحت الرئيس حسني مبارك. وأهم المسميات التي شاركت في الثورة، من تلك الجمعيات، مجموعة خالد سعيد والسادس من أبريل، وحزب الغد، وبالمثل شاركت قوى عرفت بحركات المجتمع المدني في الثورة التونسية.
في لبنان تشارك منظمات المجتمع المدني، المعروفة بتلقي الدعم من المنظمات الإنسانية الأوروبية والأمريكية. لكن قوى سياسية جديدة التحقت بالحراك، وعملت على تغيير بوصلته، رافعة شعار «بدنا نحاسب». وتشارك حالياً في الاحتجاجات، حركات وأحزاب يسارية، من ضمنها حركة الشعب والحزب الشيوعي اللبناني، ومنظمات يسارية طلابية، وتنضم إليها بشكل مطرد، عناصر قريبة من تحالف 8 آذار.
يدور جدال داخل الحركة السياسية اللبنانية، حول الدوافع الحقيقية للحركة الاحتجاجية، ويرون أن قيادة المنظمات غير الحكومية للحركة الاحتجاجية «NGO»، يعني أن هناك أجندة أمريكية تتعلق بلبنان، ويخشون من تكرار السيناريوهات التي حدثت في عدة بلدان عربية، بعد اندلاع «الربيع العربي».
وهنا يحتدم السجال بين رأي يقول إن الحركة الاحتجاجية قد انطلقت، وأن غالبية الناس، يقفون من خلفها، مؤيدين أهدافها. وأن الصحيح هو المشاركة في الحركة، وتوجيهها، بما يحول دون تنفيذ الأجندات الغربية. هؤلاء يعتبرون النظام الطائفي سبباً في كل مشاكل لبنان. ولذلك يركزون على ترسيخ مبدأ المحاسبة واعتماد النسبية في الانتخابات البرلمانية وإلغاء النظام الطائفي، واستبداله بالمواطنة، حيث لكل مواطن صوت بغض النظر عن طائفته ودينه ومعتقداته. وبين رأي يرى في الحركة الاحتجاجية فخاً أمريكياً، من غير اتفاق على نوعية هذا الفخ. فهناك من يرى أن هدف الحركة الاحتجاجية، إغراق لبنان في فوضى عارمة. لكن الجميع يشارك، وإن بشكل محدود في التظاهرات، ربما برغبة الاستكشاف، أو العمل على تغيير بوصلة الحراك.
الأحزاب الناصرية والقومية الأخرى، مسكونة بما جرى في ليبيا وسوريا واليمن، وتخشى من تكرار المشهد، ولذلك فهي ترفض المشاركة بشكل مكثف في هذه الحركة.
رغم مضي أكثر من شهرين على انطلاق الحركة الاحتجاجية، فإن زخم المشاركة فيها لم يصل إلى ما جرى في تونس ومصر وسوريا واليمن. فقد اقتصرت التظاهرات الكبرى على وسط بيروت. ولم تصل في أعلى حالاتها إلى عدة آلاف. وهي نسبة ضئيلة جداً إذا ما قورنت بالملايين الذين شاركوا في التظاهرات المصرية، في 25 يناير/كانون الثاني وما تبعها من تظاهرات، أجبرت الرئيس حسني مبارك على التنحي عن موقع الرئاسة. وفي تونس، والتي تقترب نسبة سكان لبنان من سكانها، تخطى تعداد المتظاهرين في شارع الحبيب بورقيبة، قلب العاصمة الخمسين ألف نسمة.
يحرص اللبنانيون، على مواصلة حياتهم بشكل عادي. ولا تأخذ التظاهرات مكانها، في الأغلب إلا مع عطلة نهاية الأسبوع، إضافة إلى أن أهداف هذه التظاهرات لا تزال ضبابية.
في تونس ومصر واليمن طالب المتظاهرون بإسقاط النظام، واختزلوا مطلبهم في عزل الرئيس، برحيل ابن علي أنجزت الثورة هدفها. والحال كذلك أيضاً في مصر بعد تنحي الرئيس مبارك عن السلطة،وفي اليمن اعتبر نجاح المبادرة الخليجية، نقطة الحسم، حيث أجبرعلي عبدالله صالح على التخلي عن الحكم.
في لبنان تبدو المطالب ضبابية وواسعة. فماذا يعني على سبيل المثال إسقاط النظام في بلد ليس فيه رئيس جمهورية، والبرلمان منتهي الصلاحية. ضد من تشتعل الثورة؟! والأحزاب السياسية متغلغلة بقوة بتشكلها الطائفي في كل خلية من النسيج اللبناني.
غياب الرئيس اللبناني، رغم أهميته الدستورية، ليس السبب المباشر في تفشي الفساد، وأزمات لبنان ظلت قائمة منذ استقلاله، ولم يحل وجود رئيس للبلاد، دون استفحال أزماته. وإذا كانت كل ثورة تنتهي بمرحلة انتقالية وبإعلان دستور جديد، فإن واقع التشكيل الاجتماعي، والبنية الطائفية للبنان، سيأتيان بنفس الوجوه، وبدستور يقترب في نصوصه، من الدستور الحالي.
لعل فضيلة الحراك، تكمن في تعميق الوعي لدى المسؤولين اللبنانيين، باستحالة استمرار الوضع الاجتماعي على ما هو عليه، ومقابلة استحقاقات الناس أو استمرار البلاد في فوضى لا تحمد عقباها.
ستستمر لعبة الكر والفر، إلى حين، وربما تسقط وجوه، وتتغير توازنات، لكن أحداث الربيع العربي، لن تتكرر أبداً في لبنان. وسيجد بلد الأرز طريقه، عاجلاً أم آجلاً للخروج من الأزمة.