د. علي محمد فخرو
منذ بضعة أيام حلت الذكرى العالمية السنوية ليوم المعلم. وكالعادة امتلأت أعمدة الصحف ووسائل الإعلام بكلمات الإطراء والتقدير للمعلم والمعلمة ودورهما النبيل المتفاني في خدمة أجيال المستقبل. لكن بعد أيام سيسدل الستار وينسى الناس، ثم ينتقلون إلى حفلات تمجيد لأناس آخرين.
غير أنه إذا كان العالم يقدر حقاً دور المعلم والمعلمة العظيم فليرفع مقام دورهما باتخاذ قرار تاريخي في اليونيسكو يدعو إلى تمهين مهنة التعليم لتصبح مهنة رفيعة المستوى تماثل المهن الرفيعة الأخرى من مثل مهن الطب والهندسة والقانون على سبيل المثال.
لتكوّن اليونيسكو لجنة دولية من المفكرين والخبراء التربويين وأصحاب الخبرة والتميز من المعلمين لوضع تصور عن الحدود الدنيا المطلوبة لانتقال المعلمين والمعلمات من شاغلي وظيفة إلى متخصصين ممتهنين.
ستحتاج تلك اللجنة لوضع الحدود الدنيا من الدراسة الجامعية ولمعلم المستقبل، ونوع ومستوى المقررات الأكاديمية التي يجب أن تدرس، ووسائل ومدة الخبرة العملية التي يجب أن يمارسها المعلمون قبل اعتبارهم من المهنيين الأكفاء القادرين على حمل مسؤولية التعليم بكفاءة.
بمعنى آخر ستضع اللجنة المتطلبات الأساسية لدخول المعلمة والمعلم المهنة، ومتطلبات البقاء فيها، وظروف إخراجهما منها إن كسرا قواعدها.
أعرف جيداًَ بالخلافات حول هذا الموضوع في الأدبيات التربوية والمحاذير التي يثيرها البعض حول عدم توفر كل المعايير المطلوبة لاعتبار التعليم مهنة. وأعلم أن بعض الدول لا تملك الإمكانيات المادية والبشرية التي سيتطلبها مثل هذا القرار التاريخي.
لكن تاريخ اليونيسكو يؤكد أن الكثير من تصوراتها الجريئة التجديدية في حقول اختصاصاتها ترك أمر تطبيقها المتدرج، في الحدود الدنيا إلى الأعلى فالأعلى، للزمن ولتوفر الإمكانيات وتهيؤ الظروف المجتمعية. إن الكثير من الأفكار والأنظمة الإبداعية الكبرى في تاريخ المجتمعات البشرية، من مثل الديمقراطية أو دولة الرفاهية أو العدالة الاجتماعية، قد مرت في طرقات التدرج وسيرورة النمو والتحسن عبر الزمن. وهذا بالطبع سينطبق على خطوة كبرى هائلة من مثل تبني فكرة تمهين التعليم، في كل مستوياته، من مرحلة الروضة إلى التعليم الجامعي.
سيسأل البعض عن مبرر القيام بتلك الخطوة الجذرية. الجواب يكمن في قضية المسؤولية المجتمعية لحماية أمان الإنسان ورعايته بعيداً عن كل ضرر. لنأخذ مثال تاريخ تمهين مهنة الطب. قبل القرار التاريخي بتمهينها كان باستطاعة كل أنواع المشعوذين والحلاقين وغيرهم من المدعين الجهلة الادعاء بمعرفتهم علوم الطب وبخبرتهم في علاج هذا المرض أو ذاك. لقد مات الكثيرون أو أصيبوا بالعاهات جراء الممارسات الخاطئة.
ومن أجل حماية الإنسان من أولئك الممارسين الناقصين علماً وممارسة صحيحة قررت بعض البلدان المتقدمة وضع ضوابط صارمة بالنسبة للتعليم والتدريب وضوابط الممارسة وشروط الانتساب إلى المهنة ومحددات الإخراج منها. وقد بدأت كضوابط في حدودها الدنيا وتطورت مع الزمن وانتشرت في كل أصقاع الدنيا. الذين بدأوا بذلك الانتقال التاريخي فعلوه باسم حماية الجسد الإنساني الذي اعتبر عدم الإضرار به وحمايته من أوجب الواجبات المقدسة. وهنا يطرح السؤال نفسه: إذا كان الجسد الإنساني من المقدسات التي يجب ألايعتدى عليها، فماذا عن عقل الإنسان ونفسيته وروحه؟ أليست هي الأخرى بنفس مستوى تلك القدسية، إن لم تكن بمستوى أعلى وأهم؟ وفي هذه الحالة، أليس من واجب المجتمعات حمايتها، خصوصاً في مرحلتي الطفولة والشباب، وعدم تركها لمن هب ودب ليعبث بها ويشوه سيرورة نموها وسموها وتوازنها مع بعضها بعضا؟
أليس من الحكمة أن تعهد رعاية العقل والنفس والروح والسلوكيات إلى أناس مؤهلين تأهيلاً علمياً وثقافياً واجتماعياً للقيام بتلك الرعاية بأفضل المستويات والالتزامات؟
وفي هذه الحالة، إذا كنا سنطلب من المعلم والمعلمة أن يبذلا الجهد ليكونا في ذلك المستوى العلمي والثقافي والالتزام الاجتماعي الرفيع، وهو مستوى سيحتاج في اعتقادي إلى سبع سنوات من التعليم والتدريب الجامعي والحقلي المدرسي وتعليم مستمر طوال حياتهما المهنية، أليس من حقهما على مجتمعاتهما أن يكونا في أعلى المراتب الاجتماعية، مكانة وتقديراً واكتفاءً مادياً؟
عند ذاك سيكون المعلمون أحد أهم مصادر التغييرات والتجديدات المجتمعية في الفكر والسلوك والعادات، وذلك من خلال تنمية وإعلاء شأن العقل التحليلي الناقد المبدع المستقل، وبناء النفسية الناضجة المتوازنة، وترسيخ القيم الأخلاقية والروحية، في عقول ونفوس وأرواح تلاميذهم.
يتحدث الكثيرون عن المناهج والأبنية المدرسية واستعمال وسائل التواصل الإلكترونية الحديثة وغيرها كمداخل لإصلاح التعليم.. لا، المدخل الرئيسي هو المعلم المثقف الممتهن الملتزم، ومعه ستحل كل المسائل الفرعية الأخرى.