د. يوسف مكي
سيظل التاريخ يحتفظ في ذاكرته، صباح يوم الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001م، باعتباره يوماً ليس كسائر الأيام. ففي ذلك اليوم جرحت القوة الكبرى في العالم، في عنصري قوتها: الاقتصاد والمؤسسة العسكرية. فقد استهدف الهجوم الانتحاري الذي نفذه تنظيم القاعدة، بطائرات مدنية برجي مركز التجارة الدولي في نيويورك رغم العظمة الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية، كما استهدف جزءاً من مبنى البنتاغون، في العاصمة الأمريكية واشنطن، رمز القوة العسكرية.
كان واضحاً، منذ البداية، أن الحدث قد طوى صفحة من التاريخ، لتبدأ أخرى، وأن عالم ما بعد هذا الحدث، لن يكون شبيهاً بما قبله.
كانت أولى إسقاطات هذا الحدث، بالنسبة للداخل الأمريكي، هي عودة المكارثية، بوجهها القبيح، حيث تعرضت الحقوق الفردية للمحاصرة، في بلد يعتبر أن من أهم مميزات نظامه احترام حقوق الفرد. واقتبس الرئيس الأمريكي جورج بوش، من غرمائه في تنظيم القاعدة، تقسيم العالم إلى فسطاطين، فسطاط الخير وفسطاط الشر. وأن «من لم يكن معنا فهو ضدنا».
أعلن عن قائمة فسطاط الشر، وسميت دول بعينها، كبلدان مستهدفة، لمحاربة الإرهاب، التي أعلن عن أنها ستكون حرباً عالمية، لا تبقي ولا تذر، وأنها ستشمل جميع «أشرار العالم». ورغم أن قائمة الدول المستهدفة كانت طويلة، فإن محور الشر، وفقاً لتصريحات الرئيس الأمريكي، شمل العراق وكوريا وإيران. وعلى الصعيد العملي، فإن أياً من الدول المذكورة، لم يجرِ استهدافه، عدا العراق، الذي كان احتلاله هدفاً أثيراً، لعتاولة السياسة الأمريكية، منذ منتصف السبعينات من القرن المنصرم، قبل أكثر من ربع قرن على هجمات سبتمبر 2001.
أعلنت بعد إعصار سبتمبر مباشرة، الحرب العالمية على الإرهاب، واحتلت أفغانستان ثم العراق. والهدف المعلن هو القضاء على الجناة الذين تسببوا في حوادث سبتمبر. وفي زحمة الانشغال بالفجيعة، غيبت أسئلة كثيرة عن الحدث. كيف جرى؟ ومن له مصلحة حقيقية فيه؟. وإذا كان مرتكب المجزرة هو تنظيم القاعدة، فلماذا يضم محور الشر دولاً عديدة ليست لها علاقة البتة، بمرتكبي الجريمة؟ ولماذا كانت نقطة البداية الحرب على الإرهاب، بعد أفغانستان في العراق.؟
ورغم أن ما قيل وما نشر من دراسات شككت في الرواية الرسمية للحدث، كما في حالة عدة دراسات نشرها الكاتب الفرنسي تيري ميسان. والتي رآها الكثير متسقة مع نظرية المؤامرة. فإن المؤكد أن احتلال العراق، قد كشف عن مشاريع جاهزة لإخضاع المنطقة بأسرها، برزت لاحقاً بوضوح في تقرير «مؤسسة راند»، الذي حمل عنوان «الاستراتيجية الكبرى». كما أن تصريحات عدد من المسؤولين الأمريكيين، قد أفصحت عنها بعد احتلال العراق مباشرة.
فقد اعتبر وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، دونالد رامسفيلد ما يجري في العراق، من فوضى عارمة، ومن نهب للآثار، وتخريب للجامعات، وهدم للدولة الوطنية العراقية، وحل للجيش العراقي، بأنه مخاض ولادة جديدة، يخرج من رحمها نظام الشرق الأوسط، الذي بشر به شمعون بيريز في مطالع التسعينات من القرن المنصرم. وأشير في حينه إلى أن العراقيين يتدربون من خلال الفوضى على ممارسة الديمقراطية، التي حرموا منها طويلاً.
وجاء تتابع الأحداث، ليكشف النوايا الحقيقية للاحتلال، بعد تدشين عملية سياسية تقوم على القسمة بين الطوائف والأقليات. وكانت مرحلة جديدة في التاريخ العربي، يجري فيها، وبموجب الدستور تغليب الهويات الجزئية، على الهوية الوطنية الجامعة، ويتشكل نظام سياسي جديد في العراق، بوحي من هذه الهويات، كمقدمة لاندلاع حروب أهلية، وإعادة تشكيل الخارطة السياسية، للبلدان العربية، على مقاس تلك الهويات.
لم يكن ما حدث بعد ما عرف بالربيع العربي، سوى استكمال لما جرى في أرض السواد. فبغض النظر، عن الشعارات التي رفعت، في الأيام الأولى للحركات الاحتجاجية، فإن النتائج التي تمخضت عنها، صبت جميعاً في مشاريع التفتيت.
هناك حروب أهلية تشتعل الآن في بلدان عربية عديدة، في العراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال والسودان. إضافة إلى مشاريع تفتيت يجري تنفيذها ببطء في مصر وتونس.. والجزائر ليست بمنأى عن مخاطر قادمة. والفضائيات وكبريات الصحف، تحمل لنا يومياً صوراً مزرية، عن فواجع يتعرض لها السوريون الذين يفرون بجلدهم من الموت، في طريقهم إلى مواطئ يتصورون أنها ستكون لهم أكثر أماناً ودفئاً.
الصور في معظم أرجاء الوطن العربي، تبدو قاتمة، لكن ثمة تحول بدأت مؤشراته تفصح عن نفسها، في عدد من البلدان العربية. وهناك وعي جديد بدأ يتشكل، يرفض استمرار نزيف الدم، والعمليات السياسية التي قامت على أساس المحاصصة. وهذا الوعي هو وحده الذي سيتكفل بهزيمة الإرهاب، وليس غيره.
هناك يقظة واضحة في أرض السواد، الأرض التي أريد لها أن تكون مختبراً للفوضى الخلاقة. وهناك حراك، يشمل عدداً من البلدان العربية، ضد اللصوص والفاسدين. يترافق ذلك مع عودة الوعي، بأن العروبة، هي طوق النجاة للخروج من المأزق الراهن، كونها فوق كل الهويات الجزئية، التي طرحت بالمنطقة، منذ جرى تقسيم الوطن العربي، حصصاً بين قوى الاستعمار التقليدي.
في الذكرى الرابعة عشرة لحوادث سبتمبر، يتقهقر مشروع الشرق الأوسط الجديد، ليبرز من بين ركام الخوف واليأس وعي جديد، يرفض استمرار نزيف الدم، ويرى في تسعير الهويات الجزئية خطراً رئيسياً على الأمة. من بين الركام ستبرز عروبة جديدة، ووعي قومي جديد، قوامه التحليق بجناحي الحرية والعدالة، وشيوع فكر جديد، يؤمن بالحرية والندية والمساواة، وتكافؤ الفرص.