د. كاظم الموسوي
لم يفكر أحد، من المواطنين العراقيين على الأقل، بحجم أو بمدى الفساد في العراق وما تعرض له الشعب العراقي من انتهاكات وجرائم فساد مالي وإداري وأخلاقي في كل المجالات الحيوية منذ الغزو والاحتلال عام 2003 خصوصا. إذ كان التصور العام أو المحتمل أن تكون هناك حالات فساد وعمليات محددة في بعض المستويات الاقتصادية مثلا، كأمور اعتيادية في ظل ظروف انتقالية حرجة، كأن تكون في شؤون تجارية أو عقارية، لا سيما وأن من توفرت لهم فرص الحكم والظهور في واجهة العملية السياسية هم من المتلبسين بلباس ديني، مذهبي أو طائفي ومن كل المكونات، أو معارضين “عنيدين” لسياسات النظام السابق وكل الاتهامات التي كيلت عليه. ولكن للأسف، أو بدونه، كشفت الأيام أن عفونة الفساد زكمت الأنوف، حتى لفرسانه ذاتهم. وأن الفساد شمل الأغلب الأعم، في كل المجالات والمستويات، والدوائر والمؤسسات، والهيئات والمنظمات، وبكل ألوانها وأنواعها وعناوينها وأسمائها. وأصبحت للفساد حيتان كبيرة ومجموعات مسلحة بأسماء وهمية تحميه وتديره ومراهنات صارخة تتعلق بمستقبل الشعب والوطن. حتى مجموعات “بلاك ووتر” ومشتقاتها المرتزقة أصبحت طرفا فيه ولعبت أدوارا في تمرير جريمته وحماية المجرمين فيه. وتحت إشراف تام من مراقبي السفارة الأميركية ومتخادميها ومفتشيها العامين الذين يكتبون تقاريرا للأمم المتحدة وأجهزة المخابرات الأميركية، مع الغربية، التي تتعاون معهم أو ترسلهم لهذه المهمات. ورغم الأدلة الكثيرة والصارخة والفضائح الدامغة ما زال الفاسدون والفساد قائما أو سائرا في أركان البلاد.
لنأخذ مثالا ما جاء في المؤتمر الصحفي الذي عقدته هيئة النزاهة يوم 20/8/2015؛ للإعلان عن تقريرها نصف السنوي، نشره موقعها الإلكتروني، حيث أكَّد رئيسها الدكتور حسن الياسري على “صولة” قوية لاسترداد الأموال المنهوبة والمسرَّبة إلى بلدان الجوار والعالم، مبينا أن الهيئة أنجزت عشرات الملفات الخاصة باسترداد المتهمين والمدانين الهاربين إلى خارج العراق، لكنها اصطدمت بعدم تعاون البلدان الحاضنة لهؤلاء المتهمين والمدانين.
ذكر رئيس الهيئة 13398 قضية أخبارية وجزائية تحت التحقيق وهو عدد مفزع وكبير، كاشفا عن إحالة 2171 متهما بقضايا فساد على المحاكم، منهم 13 وزيرا و80 من أصحاب الدرجات الخاصة والمديرين العامين ومن هم بدرجتهم، مبينا أن 503 أحكام صدرت، أُدِين فيها 588 متهما، منهم أربعة وزراء، فضلا عن 70 ملف استرداد آخر بحق 19 مدانا من ذوي الدرجات الخاصة والمديرين العامين ومن هم بدرجتهم.
أسفرت عمليات الضبط التي نفذتها الهيئة خلال المدة نفسها عن ضبط 77 متهما متلبِّسا بالجرم المشهود، توزَّعت جرائمهم بين الرشوة والتزوير والاختلاس وتجاوز الصلاحيات، وقد تجاوزت المبالغ المضبوطة 55 مليون دينار، فضلا عن أربعة شاحنات كبيرة وما يقارب 300,000 ألف طن من السكر التالف، و900 طن من مادة الطحين منتهي الصلاحية أُدْخِلَت إلى العراق بحجة توزيعها على النازحين. (حتى في هذه المواد!!) واسترجعت الهيئة إلى خزينة الدولة أكثر من 35 مليار دينار من قضيتي فساد، إحداهما بقيمة 14 مليارا لحساب مصرف الرافدين الحكوميِ، والأخرى بحدود 22 مليارا لحساب وزارة الدفاع، وأشار إلى صدور أحكام أخرى باسترداد ما يقارب 9 مليارات دينار، منها 4,290,137,020 صدرت فيها أحكام اكتسبت الدرجة القطعية، فضلا عن استرداد ستة مليارات دينار في فترات سابقة. وبالتأكيد هذه الأعداد والأرقام هي جزء بسيط من قصة الفساد، ودور الهيئة في الوصول إليها ونشر هذا النزر اليسير. فكيف يتصور المرء حقيقة الوضع وسرطان الفساد متفشٍّ في كامل الجسم؟! وتداعياته وانعكاساته تتشارك مع الخراب العام، والسياسات التدميرية، المتواصلة من جرائم ما سمي بداعش إلى الأزمة الاقتصادية والأخلاقية وغيرها.
كما ذكر رئيس الهيئة أن عدد أوامر القبض التي صدرت بناء على تحقيقات الهيئة بلغت 2128 أمر قبض بحق متهمين بتهم فساد، نفِّذ منها 462 أمرا، ولم تنفِّذ الجهات المعنية 1395 أمرا، مبينا أن هذه الأوامر تضمنت 18 أمرا صدر بحق 9 وزراء أو من هم بدرجته، و79 أمرا بحق 46 متهما من الدرجات الخاصة والمديرين العامين ومن هم بدرجتهم. ولا بد من السؤال: لماذا لم تجرؤ الهيئة على كشفها؟ ومن هي الجهات المعرقلة وما هي الأسباب؟ إذا كانت الهيئة متأكدة من تحقيقاتها وأوامرها! هذه الجرائم المخجلة لا يمكن أن تستمر أو يتستر عليها ويسكت عنها، ولا بد من مشاركة كل أصحاب الضمائر الوطنية الحية والشهامة العراقية في دعم أوامر الهيئة ومساعدتها في الكشف والشفافية والعلنية.
بموازاة هيئة النزاهة وما صدر عنها من معلومات أولية عن آفات الفساد وخطرها، يتواصل معها ما صدر عن وزارة التخطيط في اليوم نفسه، رغم اهتمامه بأمور أخرى مبتعدا عن الفساد وآثاره حتى في تعميق الأزمات وتفاقم المشاكل.
حسب الوكالات أعلن الوزير الدكتور سلمان الجميلي إطلاق نتائج تحديد آثار الأزمة المزدوجة بسبب جرائم داعش وانخفاض أسعار النفط في الوضع الاقتصادي والفقر في العراق. وأضاف من المؤلم أن نتكلم عن الفقر في بلد مثل العراق، بلد الرافدين وأرض السواد، هذا البلد الذي حباه الله بهذه الإمكانات الواسعة، ولكن صانع القرار يحتاج إلى مؤشرات لكي يتخذ قرارات ويرسم سياساته بما يخدم التخفيف من الأزمات أو الوصول إلى حلول.. وأوضح الوزير “أن هذه المؤشرات التي توصلنا إليها رغم أنها مؤلمة وتستفز المشاعر، داعيا السياسيين وقادة المجتمع إلى معالجة هذه الأزمات التي تمر بنا المتمثلة بأزمتين الأولى هي أزمة الإرهاب الذي ينبغي أن نتعاون جميعا لكي نتخلص منها بتحرير مناطقنا والأزمة الثانية هي أزمة النفط التي كشفت بشكل مريع الخلل في الاقتصاد العراقي”… و”أشارت الدراسة عن ارتفاع نسبة الفقر في المحافظات المغتصبة إلى 41% أما في بغداد إلى 13%، فيما في محافظات الوسط 19%، بينما محافظات الجنوب 31,5% وفي إقليم كردستان 12,5%، وفي محافظتي كركوك وديالى تشير الدراسة إلى أن نسبة الفقر 18%”(!).
كل ما ذكر وقائع رسمية أو من مصادر رسمية، وإذا نظرنا لها كذلك مع البحث عن الوقائع الحقيقية، فسنكون أمام وقائع وأدلة دامغة، وهنا تبدأ الأسئلة!