اسماعيل ابو البندورة
سوف نبقى الى أمد طويل نكتب عن الاستاذ وعن ذكرى رحيله لأن أجيالا عربية كبيرة متعاقبة انتهلت منه واستلهمت من فكره العميق أفكارا قومية تأسيسية لا تزال تندرج في عداد المرجعيات القومية المكونة الملهمة ، وكان القليل الذي كتبه وبشر به عناوين وخطوطا حفرت عميقا في الفكر والذاكرة العربية وتركت مساحة كبيرة للاجتهاد والتجديد والتأويل والاستكمال ، ذلك أن البعث والانبعاث لديه يتوالد بالتجربة والتراكم والتواصل واختبار الواقع ولا يأتي عن طريق الفكر المجرد والتأملات والحدوس والتجليات ، وكانت الفلسفة لديه هي ما يقوله الواقع وما تقوله الأمة وتعبر عنه في كل أطوارها ومخاضاتها وما تولده من أجوبة في شتى لحظاتها ، ولم تكن تحليقا فوق الواقع أو افتراقا ونأيا وابتعادا عنه بل كانت تطابقا واختراقا وانبثاقا منه وانقلابا عليه .
وبهذه المثابة كان الاستاذ فيلسوف البعث لا بالمعنى الصوفي المنفصل والمنعزل والمجرد ، وإنما بالمعنى المتصل والمندغم بالحياة والواقع العربي وإشكالياته ، وكان مفسرا لوجود عربي بغية تغييره داعيا للتمرد عليه في كل لحظات تراجعه لا متأملا لمجرياته ، فأصبح فكره محركا ودليل عمل وخطابا الى الأمة، وأصبح هو الشخص والفكرة توأمان لا ينفصلان وكان لهذا الامتزاج والاندماج وقعه الكبير في حياته وتجربته وما فكر به بإفصاح وسهولة ممتنعة، ونأى عن الاصطناع والإبهام وتوجه فكره نحو القضايا الكبرى المرتبطة بتاريخ العرب ووجودهم في التاريخ وتجاوز الصغائر والفكر اليومي والإشكاليات الزائفة.
ولأنه أتى من الأدب الى السياسة كان لكلماته ذلك الرونق وتلك الطلاوة التي تجتذب النفوس والعقول وترتقي بها الى مدارج السمو والإيثار والرفعة فكان لهذا الامتزاج أيضا ما أضفى على فكره تلك السمات الانتظامية المتجددة المنطوية على أنسنة عميقة ، فبدا الانسان العربي في فكره وعقله ذاتا وحرا ، وليس مجرد أداة وكائن سياسي تخاض به ومن خلاله المعارك السياسية ، أو كائنا حزبيا منوالياً ممتثلا مطواعا ، وإنما إنسان واقعي يدرج على الأرض بعقل وهاج وعاطفة دفاقة وبروح جامحة للحرية متمنعة على الخنوع ، وفردا متعددا وجمعيا وحدويا وليس موضوعا ورقما أصماً من الأرقام.
وكانت الأمة العربية فضاء لعقله وروحه أينما يمم وأقام فهو قومي عربي وعروبي أينما يكون، ولا فرق وفقا لطبائعه ويقيناته بين هذا القطرالعربي أو ذاك ، إنها الأمة الواحدة المتخيلة والمفترضة والمطموح اليها لديه، وكان رائده في ذلك كل من حلموا في كيفيات صياغة وصناعة التاريخ من قبل وتحققت أحلامهم بالكدّ والنضال والعمل المتواصل ، فالوحدة المتطلع اليها والمنشودة حسب هذا الفكر لا تتم رغبياً وعن طريق الأمنيات ، وإنما تبنى بالعمل الشعبي العربي المشترك وبالنضال الجماهيري وبالمحافظة على ذهنية التوحد وحلم الوحدة وصون تاريخ الأمة .
ومع أننا نفتقد درسه وعميق فكره في مثل هذه اللحظات الصعبة إلا أننا لا نزال نسترجعه ونتمثله في كل لحظة ونرى في هذا الفكر البياض الذي ينبثق بعد العتمة ، لأن درسه تأسس على الأمل والعزم وتبديد العتمة وكان قبسا من معرفة نهضوية في لحظة غياب وانسداد كانت سائدة وطاغية في القرن الماضي ففتح واشتق بفكره الاستنهاضي المنير الفضاءات الفكرية المستغلقة بالكلمات الموجزة والأفكار المخصّبة، وخطى خطوة النضالي المتمهل نحو بناء الوعي بالوحدة والحرية ومقاومة التخلف والاستعمار واستجاب له الشباب العربي الذي تحلق حوله واكتشف فيه المعلم والمثال فكان الدفاع عن فلسطين عام 1948 وكانت الوحدة الأولى عام 1958 وكانت الانجازات التاريخية والصولات والجولات ضد الاستعمار والتخلف والاستبداد في كل أقطار العرب، وكانت الوقفات المشهودة والتضحيات والبطولات التي اجترحها تلاميذه على مدى ذلك التاريخ الطويل، وكانت تلك مأثرته التي لا تنسى ولا تغفل، وهذا كما نحسب ما جعل البرابرة والتتار يأتون الى ضريحه في بغداد لاجتثاثه تمهيدا لاقتلاع فكره وحزبه ورفاقه، وخاب فألهم وتبدد شملهم وهم ينهزمون أمام مقاومة من حملوا الراية بعده وعلى هدي أفكاره، وبقي العراق عربيا كما أراد على الرغم من الاحتلال الأول والتالي الراهن وهذا الاسوداد الطاريء المندحر وانتشار الجراد على أرض ونخيل العراق ، وتعكر الماء العراقي الزلال، وبقي هو الملهم والمعلم لهؤلاء البواسل الذين دافعوا عن حرية وكرامة بلدهم وما بدلوا حتى اللحظة تبديلا، وبقي هو المؤسس والمثال ورمزا من رموز حرية العرب!
ساءلت نهرك لا جفّت جداوله وكل نبع له زرع يسائله
هل المصبّات للأنهار خاتمة؟ والماء هل تنتهي فيه شواغله
ويأفل النجم آلاف مؤلفة تمضي ويلمع في الظلماء آفله
ونحن نسأل هل للنهر خاتمة أم كل نهر تواليه أوائله
يا أيها الرجل القديس أفضله بأنه ليس يدري ما فضائله
ويا معلم هذا الجيل ان له من صمتك الآن طيفا لا يجامله
( عبد الرزاق عبد الواحد )