د. يوسف مكي
قرابة خمسة أشهر مضت، منذ بدأ التحالف الدولي حربه على داعش في سوريا والعراق. وخلالها اتضح من تصريحات المسؤولين الأمريكيين، ومن خلال ضربات قوات التحالف الخجولة على مواقع داعش بالبلدين، أن الإدارة الأمريكية ليست في عجلة من أمرها. فالتصريحات الأمريكية استمرت في الحديث عن حرب طويلة على داعش، جرى تقديرها في الأدنى بثلاث سنوات وقد تصل في الأقصى إلى عشر سنوات.
يسجل في هذا السياق، أن داعش لم تبدأ بالاستيلاء على الأراضي العراقية مؤخرا، وأن قواعدها الآمنة في العراق وسوريا، وبشكل خاص في محافظة الأنبار في العراق ومحافظة الرقة في سوريا منذ عدة سنوات ولم تحرك إدارة الرئيس أوباما ساكنا إلا عندما اقتربت داعش من مدينة أربيل في شمال العراق. وقد أوحى ذلك لكثير من المراقبين، أن أمريكا حريصة على استكمال خارطة تقسيم العراق، وإلا فما الذي يفسر حرصها على بقاء أربيل، بمعزل عن سيطرة داعش، وهي التي أغمضت عينها عن احتلال داعش للأنبار ونينوى وصلاح الدين.
وقد توصل بعض المحليين الذين تابعوا سلوك الإدارة الأمريكية تجاه تحركات داعش، إلى أن أقصى ما تريده هذه الإدارة هو احتواء هذا التنظيم، والتحكم في حركته، وليس القضاء عليه.
وإذا ما أخدنا مواقف القوى الإقليمية، فإننا نلحظ تنافسا شرسا على كلا البلدين.
الأتراك يتطلعون بشكل إيجابي إلى عمليات داعش. فهذه العمليات ستسهم أولا في إضعاف الدولة السورية،. وهي ثانيا، ستسهم في بقاء الدولة العراقية ضعيفة، بما يتسق مع استراتيجية تركيا، التي تتطلع إلى لعب دور إقليمي أكبر في المنطقة بأسرها. وهي ثالثا، تقطع طريق طهران، من العراق إلى سوريا ولبنان، وتشل عمقها الاستراتيجي الممتد إلى حوض المتوسط.
الإيرانيون، من جانبهم، تطلعوا إلى دور أمريكي يلجم داعش، وينهي طموحاتها في تشكيل دولة إسلامية على أرض العراق والشام. لكنهم اكتشفوا مؤخرا إن هناك افتراقا حادا بين الاستراتيجية الأمريكية، والمصلحة الإيرانية في القضاء على تنظيم داعش.
بالنسبة لإيران، فإن تمدد داعش، يعني إمكانية سقوط سوريا حليفتهم، ومحاصرة حزب الله في لبنان، وخسارتهم للعراق، الجائرة التي قدمها الأمريكيون لهم على طبق من ذهب، بعد استكمال العملية السياسية. ولم يكونوا في كل الأحوال في وارد التخلي عن المكاسب التي حققوها بأرض السواد. ويضعف دور حزب الله في لبنان لقد أصبح التمسك بهذه المكاسب بالنسبة للإيرانيين مسألة وجود.
الاستراتيجية الأمريكية، في العراق اعتمدت النفس الطويل وعدم نزول القوات الأمريكية على الأرض، والاكتفاء بالضربات الجوية. وذلك ما يتلاءم مع سياستها تجاه النظامين العراقي والسوري، اللذان يقيمان تحالفات قوية مع طهران. فهي لا ترغب أن تخوض حربا بالوكالة عن إيران على أرض العراق. ولا تريد انهيار التنظيمات المتطرفة المعارضة للدولة السورية، قبل استكمال تشكيل "قوة معتدلة"، تكون مفاتيح حركتها بيدها كما هو مخطط له ومعروف.
إن القضاء على التنظيمات المتطرفة، مع غياب "التنظيمات المعتدلة" على الساحة السورية، يعني انتصارا محققا للحكومة السورية، وهزيمة ماحقة للمعارضة المسلحة. ولذلك تنتهج السياسة الأمريكية، في الحرب على داعش، نهج بين-بين. فهي لا تريد هزيمة نهائية لداعش، ولا تريدها أن تحقق انتصارات باهرة بالبلدين.
بالتأكيد ترغب الولايات المتحدة في إبعاد خطر داعش، عن آبار النفط وتريد أيضا حماية الشمال العراقي، حيث توجد المنطقة الكردية، من التفتت والسقوط في أحضان التنظيمات المتطرفة، لكنها لا تمانع في استمرار سيطرة داعش على محافظة الأنبار.
أما الحكومة الإيرانية، فموقفها مختلف جذريا عن الموقف الأمريكي من الحرب على داعش. فطهران، تقف على نقيض الموقف الأمريكي من الأنبار. فاستعادة هذه المحافظة للدولة العراقية، هي أولوية في استراتيجيتها، لكونها الطريق الوحيد الذي يوصلها إلى دمشق، وبيروت. وقد لا تمانع إيران مرحليا، من سقوط أربيل بيد داعش، وتحريرها لاحقا، لأن ذلك سيضعف المطالب الكردية، المعلنة وغير المعلنة، في الانفصال التام عن المركز في بغداد، واكتساب صفة الدولة المستقلة، ويجعلها تدرك بأن وجودها هو رهن لقوة الحكومة المركزية. ولذلك فإن مخطط إيران كما هو مخطط حكومة بغداد يقوم على استرداد صلاح الدين أولا، حيث الأماكن المقدسة في سامراء. وتعزيز ذلك باستعادة بعقوبة، المجاورة لمحافظة صلاح الدين، والتوجه بعد ذلك لتحرير الأنبار، وليس نينوى، حيث مدينة الموصل.
تحرير الأنبار وليس نينوى، يحقق ميزتين لإيران. فهو أولا يمكنها من استعادة عمقها نحو بلاد الشام، و ثانيا، لأن تحرير الأنبار أمر أسهل كونه يتم في أرض مكشوفة، وبدون كثافة سكانية، في حين تعتبر الموصل، المدينة الثالثة في العراق، حجما وكثافة سكانية.
يضاف إلى ذلك، أن التنسيق مع الجيش السوري، غربا، يجعل من داعش بين فكي كماشة، حيث يطبق الإيرانيون والجيش العراقي والحشد الشعبي شرقا، والجيش السوري غربا، فلا يكون أمام عناصر داعش إلا الموت أو الاستسلام. بالنسبة إلى الموصل، يشكل اتصالها بالأراضي التركية، عاملا مساعدا لداعش، فهو يبقي طريق الإمداد مفتوحا من الشمال ويتيح لهم سبل المناورة والهروب، بدلا من الموت أو الاستسلام.
ولذلك لا يتوقع أن يبادر الإيرانيون والجيش العراقي وروافده، لتحرير الموصل الآن، وسوف تبقى شأنا مؤجلا إلى حين تحرير الأنبار، وبقية مناطق صلاح الدين. لكن هذه الاستراتيجية تغفل حقائق أخرى لا تقل وجاهة، هو أن الموصل ليس بها حاضنة اجتماعية قوية لداعش، بينما الأمر مختلف كليا في الأنبار، حيث تتحشد معظم التنظيمات المتطرفة، وتحظى بتأييد شعبي. كما أن الأنبار، بخلاف نينوى من حيث المساحة، يمثل قرابة ثلث الدولة العراقية، وهي صحارى واسعة، يصعب التحكم فيها. ولسوف تتكفل الأيام القادمة بتأكيد خطأ أو صواب هذه الاستراتيجية.