د. عبدالاله بلقزيز
مِثْل متحف بغداد الوطني، الذي تعرّضت محتوياته من كنوز الآثار للنهب من قوات الاحتلال وعصاباته من شبكات تجار الآثار، تعرَّض متحف الموصل للاعتداء عينه: للنهب والتخريب، بعد أن اجتاحته جحافل المتطرفين، وأعملت في محتوياته معاول الهدم والتحطيم: كما شاهد العالم وقائع ذلك عبر شاشات التلفاز. في مشاهد من التدمير وحشية، وفي برهة من الزمن سريعة، كان تاريخ العراق يخر تحت أقدام المهاجمين، تماماً كما كان أبناؤه وأبناء سوريا يخرّون صرعى تحت أقدام نفس الجماعات المعتدية المنفلت عنفُها الأعشى من كل عِقال.
مذبحة شنيعة هي تلك المذبحة التي وقعت على التاريخ والذاكرة في بلدي التاريخ والذاكرة: العراق وسوريا! كنوز لا تُقَدَّر بثمن نُهبت وبيعت لتجار الآثار، ووجدت طريقها – عبر شبكات وعصابات الوسطاء – إلى متاحف بلدان الغرب وقصور الأثرياء في العالم. ثروة أنفس من نفط العراق وغاز سويا – الذي عليه مدار الصراع – هي تلك الثروة المنهوبة، نهباً منظماً، منذ وطئت أقدام الغزاة أرض الرافدين، قبل اثني عشر عاماً، وإلى حين عاث المتطرفون التكفيريون فساداً في بلاد الشام وأرض السواد. أزيد من ثلث آثار المتحف في بغداد نُهب، ونُهبت متاحف سوريا وآثار تدمر لتُباع للأجانب قصد تمويل "الثورة الديمقراطية" وتنظيم "داعش" هل من جائحة أصابت البلدين – بعد شلالات الدم وأكوام الحطام – أشد أذى من هذه الجائحة؟
يؤذن الاعتداء على متحف الموصل، وتدمير محتوياته، بتحول في نظرة المتطرفين إلى الآثار، وفي طريقة تصرفهم حيال ما يقع في قبضتهم منها. اعتادوا في الأعوام الثلاثة الأخيرة، في سوريا تحديداً، أن ينهبوها. ومن سرقة الآثار وبيعها للشبكات والعصابات الدولية المتاجرة بها، وتهريبها عبر تركيا، كانت تتأمن الموارد المالية لمشروعهم القتالي: لشراء السلاح، واستقدام المقاتلين من الخارج، وصرف الرواتب، وسوى ذلك. لم يلتفت أحد منهم – حينها – إلى أي دعوى دينية تسمي الآثار أصناماً وأوثاناً يجوز فيها حد التحطيم.
الحاجة المادية تكفلت، ساعتئذ، بتعطيل "الواجب الشرعي"، وعدم الاكتراث لندائه. وخيّل إلينا أن براغماتية جماعات المتطرفين في سوريا أخذتهم بعيداً من نهج حركة "طالبان": التي دشنت العمل بتدمير الآثار بدعوى أنها أصنام، على مثال ما فعلته بتمثالي بوذا في أفغانستان. لكن أكثر من انساقوا منّا وراء هذا الظن، نسي أن المتطرفين دمروا مقامات الأنبياء والأولياء، في سوريا والعراق، في الوقت عينه الذي كانوا ينهبون فيه الآثار ويبيعونها!
ما الذي حصل حتى تقع هذه الانتقالة، في سلوك الجماعات المتطرفة تجاه الآثار، من البيع إلى التحطيم، من التصرف بها كسلعة حلال إلى النظر إليها بما هي "أصنام"؟ إذا كانت كذلك، فلماذا بيعت تلك "الأصنام" في ما مضى، وهل كان ريعها حلالاً على من باعوها؟ هل بوشر في تحطيمها بعد أن ارتفعت الحاجة المالية إليها، مع التوسّع في تحصيل موارد مالية جديدة من نهب النفط وبيعه لتركيا، أو من خطف الرعايا الأجانب ومساومة أهاليهم ودولهم على دفع الفدية عنهم، أم بوشر في ذلك قصد إعادة تلوين وجوههم بلون إسلامي متشدد بعد إذ أصاب صورتهم شرخ، أسئلة لن نجد لها، اليوم، جواباً فورياً، وقد يمّر زمن قبل أن نعثر على تفسير شاف لهذه النازلة. ما أغنانا عن القول إن تلك "الأصنام"، التي يدعونها، ليست أصناما بالمعنى القرآني والنبوي، لأنها لا تُعبد من أحد من العراقيين والسوريين، وإنما هي شواهد تاريخية يقرأ فيها الناس تاريخ بلاد الرافدين وبلاد الشام، وعظمة حضارات البلدين المتعاقبة، وتاريخ الفن والثقافة فيهما. ومن يحطمها بدعوى أنها "أصنام" لا يفعل أكثر من أنه يُكفّر الحجر بعد أن كفر البشر!
من يريد أن يعرف إلى أي حد كانت مذبحة الآثار في الموصل مروعة يكفيه أن يعرف أن متحف الموصل – المعتدى عليه – يحتوي على ما يزيد على عشرة آلاف قطعة أثرية نفيسة من الآثار الآشورية، والبابلية، والسومرية، والإسلامية يعود بعضها، في الزمن، إلى اثني عشر ألف عام. مر المغول والتتار، وجرت دماء حروب كثيرة في دجلة والفرات، ولم تطل يد كنوز العراق، التي حوفظ عليها، إلى أن وصلت جحافل "الجهاديين" إلى مدينة (الموصل) هي في حد ذاتها متحف تاريخي وبشري عاشت على أرضها عشرات الملل والنحل لآلاف السنين، من دون أن يصيبها أذى من أحد إلا ما كان من وبال نزل عليها، على حين غرة، في الأشهر الأخيرة، فأذْهَب ما كان بين جماعاتها الأهلية من تعايش مديد!
لا معنى، بعد كل الذي جرى للموصل ومتحفها وللكنوز الأثرية في بلادي الرافدين والشام، لأن يقول المرء إن المعتدين يعانون فقراً حاداً في الوعي بالتاريخ – بما فيه تاريخ الإسلام – ويعانون انعداماً كاملاً في الحس الثقافي الإنساني، إن وصفهم كذلك ينصفهم كثيراً، لأن فظاعات الارتكابات التي أتوها تناسبها مفردات أخرى.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.