د / علي محمد فخرو
التحليل الموضوعي لما بدأ في أرض العرب منذ أربع سنوات، ولا يزال يتفاعل ويتشكّل، يؤكد أن شباب الأمة العربية قد طرحوا مطالب هي في صميمها ثورية. ذلك أن شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية هي في صميمها شعارات لتغييرات ثورية كبرى، وبالتالي فالحراكات من أجل تحقّقها لا يمكن إلاً أن توصف بالحراكات الثورية. من هنا فإن فهم ما جرى وما يجري وما يجب أن يجري، لا يمكن أن يكون فهماً جدياً وموضوعياً إلا من خلال الإجابة على السؤال التالي: ما هي الثورة؟
لنأخذ أولاً التعريف القديم المتداول، وهو أن الثورات هي محاولات الاستيلاء على السلطة من قبل جماعات من الشعب بقصد إحداث تغييرات جذرية شاملة في أنظمة السياسة والاقتصاد والاجتماع. إذا طبّقنا هذا التعريف على الثورات العالمية الكبرى فإنّ جميعها لم تحقّق الأهداف التي قامت من أجلها.
لكن جميع تلك الثورات، الإنجليزية والأميركية والفرنسية والروسية وثورات 1848 في العديد من الدول الأوروبية وحراكات 1968 الثورية العالمية، جميعها أدّت إلى تغييرات مهمة في الفرضيات والمبادئ الأساسية التي تقوم عليها الممارسة السياسية في العالم كلّه، وليس فقط في بلدان منشأ الثورات.
وكأمثلة على بعض نتائج تلك الثورات في الواقع الإنساني، هو ترسُخ مبدأ الحكم الدستوري المستند في شرعيته على سلطة الشعب، التوسع في حق الانتخاب للرجال والنساء، وقيام نظم التعليم الابتدائي العام لكل المواطنين، وقيام دول الرفاه الاجتماعي من خلال التزام الدولة بتوفير خدمات الصحة والتعليم والسّكن وغيرها، وتوسعة مفاهيم الحرية الشخصية ضداً للإمتثال والطاعة العمياء، وولادة الحركة النسوية الحديثة من أجل حقوق المرأة الإنسانية.
وعليه فمن يعتقد بأن تلك الثورات الكبرى قد تعثرت وانتهت يتجاهل بأن أصداء صوت أصحابها، مبادئ وشعارات واعتراضات وتضحيات ووسائل، لاتزال معنا. ذلك أن الثورات، تماماً كما الديمقراطية، هي سيرورة لا تتوقف، حتى لو تعثّرت هنا أو هناك. فمثلاً، إن احتجاجات الشباب العالمية في بداية هذا القرن ضد مؤسسات العولمة الرأسمالية التمويلية المتوحّشة، من مثل منظمة التجارة العالمية أو صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، هي في جوهرها تتمّة للحراكات الطلابية والشبابية الثورية التي اجتاحت العالم في العام 1968. ومثل هذه الاحتجاجات لن تتوقّف قط حتى تتحقق في الواقع الإنساني أهداف الثورات العالمية الكبرى التي ذكرنا. نعم، لن تعيد تلك الاحتجاجات مشهد اقتحام سجن الباستيل الشهير في باريس، ولكنها ستحقق انتصاراتها الذاتية الخاصة بها والملائمة لأزمنتها وللتطورات الهائلة في المجتمعات البشرية الكوكبية.
انطلاقاً من نتائج وسيرورة تلك التجارب الثورية الكبرى في مختلف بقاع الأرض، فإن التقييم الموضوعي لما جرى عبر السنوات الأربع الماضية في أرض العرب يمكن أن يوصل إلى التالي:
أولاًَ: لقد استطاعت الحراكات الجماهيرية الهائلة في تونس ومصر، ونجاحها في إسقاط نظامين استبداديين في فترة قصيرة، أن تضع العرب في قلب العصر. وكمثال على ما نقول، فإنّ العديد ممّن قادوا الحركة الشبابية الأميركية المسمّاة «لنحتل وول ستريت» قد ذكروا في مذاكراتهم بأن تلك الحركة الأميركية، التي امتدّت إلى خمسين بلداً عبر القارات الخمس وكادت تسقط العديد من الأنظمة، كانت من وحي ما جرى في ساحات تونس ومصر. لقد انتقلت الحراكات الثورية العربية من كونها ظاهرة عربية لتصبح ظاهرة كوكبية.
إن حدوث ذلك يجب أن يشعر ويقنع شباب الأمة العربية بالإمكانيات الفكرية والتنظيمية السياسية الهائلة التي يمتلكونها من أجل تغيير مستقبل أمتهم، ولكن بشرط أن يمارسوا عملية تجديد فكرهم ووسائلهم وانخراطهم في الحياة السياسية بصورة مستمرة وبنفس المستوى الإبداعي الذي تجلًى عند بداية حراكات الربيع العربي منذ أربع سنوات.
ثانياًَ: مثلما أن الثورات العالمية التي ذكرنا نجحت في تغيير الكثير من الفرضيات السياسية التي كانت سائدة قبل الثورات، وجعلت العالم يسير في مسارات سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة، فإن حراكات الربيع العربي، مهما تعثًرت حالياً، ستؤدّي في المستقبل إلى حدوث تغييرات كبرى في الحياة العربية. إن عقارب الساعة العربية لن تعود إلى الوراء قط.
ثالثاً: يحتاج شباب الثورات العربية أن يقتنعوا بأن جماهير أمتهم، حتى لو أصابها الملل أو الإحباط أو الاستجابة للإغواء من قبل أعداء الأمة في الخارج وفلول القوى المضادّة للتغيير في الداخل العربي، لازالوا يريدون التغييرات الكبرى في حياتهم السياسية والاقتصادية البائسة المريضة.
إن هذه الجماهير، ولا غير تلك الجماهير، هي التي ستأتي بالفجر الجديد. إن حضنها الدافئ الحنون ينتظر هؤلاء الشباب، وما على الشباب إلا أن يبدعوا طريق العودة إلى ذلك الحضن الذي ستحاول قوى كثيرة أخرى احتلاله وسدّ أبوابه في وجوههم.
رابعاً: من الضروري التذكير مرةً أخرى بأن عصر كل ثورة يفرض شروطه ومتطلباته. إن هذا العصر الذي نعيش، العولمي المتشابك المتغيّر بصور سريعة، يتطلب أفكاراً وأساليب جديدة. ولذا فما لم تمارس القوى الشبابية العربية عمليات التجديد الإبداعي الدائم فإنها ستحكم على نفسها بالإنزواء، وعلى رؤاها الكبرى بالموت.
التجديد وحده هو الذي سيجعلها قادرة على تجاهل من يحاولون المستحيل لإدخال اليأس والظلام لمنع امتداد وهج أحلامها وآمالها.