عصمت الموسوي
على مدى أربعة أعوام، ظلّ الرأي العام البحريني والخليجي يترقب بشوق افتتاح الفضائية الجديدة، كان الهاجس على أي شاكلة إعلامية ستكون؟ وهل فعلاً ستضاهي الفضائيات العربية الأخرى الواسعة الانتشار والتي تغوص عميقاً في بحار غيرها وتتجنب مناقشة شئون بيتها الداخلي، أم ستكون أفضل؟
لم يرشح من القناة طوال هذه الفترة إلا الحديث عن الاستعداد للانطلاق ومواصلة القول عبر تصريحات مديرها جمال خاشقجي من أنها ستكون حرة ومستقلة وموضوعية وعلى مسافة واحدة من الجميع، معارضات وحكومات. وليس السؤال اليوم لماذا توقفت «العرب» فحسب فلقد أشبع هذا الموضوع نقاشاً طوال الأسبوعين الماضيين، إنما السؤال هو: هل سقط خيار إمكانية إنشاء مشاريع إعلامية مستقلة وحرة وموضوعية؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، جديرٌ بنا أن نتعرف على حجمنا الحقيقي على خارطة المشهد الإعلامي الدولي، فالعالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، مصنّفٌ في خانة الدول غير الحرة صحافياً وسياسياً واقتصادياً. وإن شئنا أن نكون أكثر تحديداً ودقةً، فإن هذا العالم لم يقل «بسم الله» بعد في الملف الإعلامي وملف الحريات، وهذه الملفات كما نعلم شديدة الالتصاق بالملفات السياسية المتعثرة أو المؤجلة في كثير من بلادنا العربية، وجاءت ثورات الربيع العربي ثم الثورات المضادة، فألفينا أنفسنا أمام حالٍ من الاستقطاب السياسي والديني والمذهبي، وضمن بيئات معادية للحريات الأرضية والفضائية والألكترونية، لذا جاء تصنيفنا أيضاً كأعداء للكلمة الحرة وللانترنت، وتراجع حتى ذلك الانفتاح النسبي والضئيل الذي شهدته المنطقة في بحر العقد الماضي بذريعة الحفاظ على الأمن والاستقرار، ولم تحقق أية دولة عربية تطوراً في قوانين وتشريعات الإعلام، ولم ترتفع أية دولة عربية إلى مصاف الدول الحرة صحافياً، وتصاعدت نسب المتهمين والمعتقلين على خلفية ممارسة حرية التعبير، وظلّت تقارير «منظمة العفو الدولية» و»مراسلون بلا حدود» و»بيت الحرية»، تمطر العالم العربي سنوياً بالتوصيات والمناشدات المطالبة بإطلاق سراح سجناء الرأي والصحافة، وبضرورة تعديل تشريعاتها الصحافية. ولا غرابة إذاً في أن يخفق مشروع إعلامي كبير أنفق عليه الملايين في تجهيز المعدات والعناصر البشرية.
لقد جاءت الفضائية تتويجاً لمبادرة انطلقت من العام 2011، ولم يفهم الناس سر هذا التمهل الطويل إلا بعد أن انطلقت القناة وأغلقت بعد عدة ساعات. وكنت في جلسة مع أحد المدراء في فضائية «العرب» قبل انطلاقها بأشهر، ورويت له خبراً ورد في وسائل التواصل الاجتماعي في ذلك الوقت عن سقوط شاحنة محملة بالخمور على الطريق في إحدى الدول العربية وهروب سائقها، قال المدير إن قصة مثيرة كهذه لا ندري إن كان مسموحاً نشرها أم لا؟ إن ذلك يكشف عن الحيرة في السياسة الإعلامية التي تنوي انتهاجها، فأبسط قصة خبرية قد تفتح الباب واسعاً للاستفاضة في مواضيع شتى ذات صلة، والسقف المحدود يضيّق الخناق ويحاصر المحطة في كل مادة، سياسية كانت أو غير سياسية.
أربع سنوات قضاها إعلاميو المحطة في حالة انتظار حول ما الذي ينشر وما الذي يمنع، ولن نتحدث عن الخسائر المادية فهذه قد يتحملها المالك، لكن عن خسارة وضياع وقت وجهود الكفاءات الإعلامية والفنية والتقنية التي تفرغت للعمل، أو تركت وظائفها القديمة وتجد نفسها اليوم على قارعة التبطل بعد أن استبشرت خيراً بأحلام التغيير الإعلامي.
قبل أن ينجز العالم العربي الاستحقاقات المتوجبة عليه في مجال الحريات المدنية والحقوق السياسية وفي استقلالية الإعلام، ويعمل على مواكبة قوانينه كلها بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، فلا أمل في حدوث نقلة إعلامية فارقة. وأحسن ما في فضائية «القصة التي تهمك»، أنها فتحت الأعين على وضع الحريات الإعلامية في العالم العربي كله، وبيّنت أننا لانزال بعيدين عن الإعلام الموضوعي المهني التعدّدي المسئول والمنفتح على الآخر، والذي يقبل الاختلاف، ويوظّف كل ذلك في السعي للتقارب والتحاور لبلوغ التسويات السياسية المرضية.