د . علي محمد فخرو
دعنا نتفحص ما جرى في باريس بمنطق هادئ وتوازن حقوقي . وهذا ماتحتاج باريس أن تفعله أيضاً .
* أولاً، بالنسبة إلى الحدث، فان قتل رسامي صحيفة "شارلي إيبدو" الفرنسية كان جريمة نكراء وهمجية بشعة في ممارسة الاختلاف مع الآخرين، لا تقرها شرائع السماء ولا القوانين الإنسانية، إضافة إلى أنها حماقة سياسية مشبوهة الأهداف .
لكن الموضوع يجب ألا ينتهي عند اللوم والشجب والاستنكار . إنه موضوع له جوانب متعددة تحتاج إلى أن تطرح بصراحة تامة .
* ثانياً، إن تلك الصحيفة تمارس مايعرف باللغة الفرنسية satire، وهي كلمة تعني الهجاء والقدح والتهكم والسخرية . وهذا أسلوب في التعبير، سواء أكان بالكتابة أم الرسم أم التمثيل أم النكتة، له ما له وعليه ما عليه . فمن أجل أن تكون السخرية لاذعة ومؤلمة يمارس الهجاء المتهكم المبالغة في التعابير الجارحة الموجعة واستعمال رذيلة الكذب والدس والغمز واللمز الحقيرين . وإذا كان الإنسان العربي يريد أن يعرف القيمة الأخلاقية الذميمة لممارسة الغمز واللمز في ثقافتنا فيستطيع أن يراجع ما قالته النصوص القرآنية وما قاله التراث الإسلامي بشأن رذيلة الغمز واللمز، بما فيها التعرض لعقيدة الآخرين الدينية .
* ثالثاً، دعنا نراجع بعض ما قاله التراث الفكري والأدبي الغربي نفسه بشأن مخاطر هذا الموضوع وملابساته .
فالشاعر الإيرلندي الساخر جوناثان سويفت كتب في أوائل القرن الثامن عشر وصفاً ساخراً للهجاء بأنه نوع من المرايا التي تعكس وتكشف وجوه كل الناس الآخرين ولكنها تستثني وجوه أصحابها .
والتراث الغربي مملوء بنقد التعابير الهجائية satire، إذ يجدها تعابير سلبية، كثيراً ما تكون مملوءة بالكراهية وقلة الذوق وتجريح الآخرين لأن مستعمليها لا يضعون لها حدوداً يجب ألا تتخطاها . وهناك تاريخ أسود للكاريكاتير الغربي الذي ألصق خاصية الأنف المعقوف باليهودي والوجه الأسود ذي العيون المبحلقة البلهاء بالزنجي والفم المفتوح المظهر لسنين بارزين قبيحين للصيني . ولم تسلم المرأة من بروزتها في صور كاريكاتيرية شتى تحط من قيمتها وكرامتها . أما الكاريكاتيرات المستهزئة بالعربي والمسلم فقد أصبحت أقصر طريق لترويج بيع هذه الصحيفة أو تلك في هذه المدينة الغربية أو تلك .
وبالطبع فإن كل ذلك لايعني أن لا مكان للتعبير الهجائي في الاجتماع الإنساني، إذ كثيراً ما كان آخر المطاف للشعوب المقموعة المغلوبة على أمرها، للتعبير عن مظالمها من خلال نكتة لاذعة أو كاريكاتير، من دون أن تصطدم مباشرة بالطغاة والمستبدين .
ورابعاً، هناك إشكالية حرية التعبير التي يتعلل بها البعض لتبرير التعايش مع مبالغات وتعديات بعض أنواع التعبير الهجائي . سنكتفي هنا بما قاله الكاتب الأمريكي الساخر مارك توين من أن هناك قوانين تحمي حرية الصحافة، ولكن لا توجد قوانين لها قيمة ووزن لحماية الناس من الصحافة، وأيضاً بما قاله الصحفي البريطاني الساخر هانن سوافر من أن حرية الصحافة في بريطانيا تعني حرية طبع شتى التعابير المنحازة والمتعصبة من قبل أصحاب الملك والسطوة طالما أن المعلنين في الصحيفة لا يعترضون عليها . وأيضاً بما قاله أحدهم من أن الحرية هي الحق في أن تكون أحياناً مخطئاً وليس الحق في أن تتعمد فعل الخطأ .
* خامساً، وفي ضوء النقاط السابقة، هل التعابير الكاريكاتيرية الساخرة الحقيرة التي أظهرت نبي الإسلام في صورة مبتذلة قاصدة جرح كرامته وعفته وبالتالي رسالته . . هل كان ذلك تصرفاً حكيماً يندرج في خانة حرية التعبير المتوازن الراغب في إصلاح الحياة البشرية، أو أنه كان حماقة صحفية لا تعطي أي وزن ولاحساسية تجاه مليار وستمئة مليون من البشر المسلمين؟
بعد أن يهدأ صخب هستيريا التظاهرات المليونية في باريس، وبعد أن يبتعد عن المسرح انتهازيو السياسة في الغرب وتابعوهم من المولولين في أرض العرب والإسلام، سيحتاج العقلاء والموضوعيين في فرنسا إلى أن يجيبوا عن ذلك السؤال . وبالنسبة إليَّ فإنني واثق بأنهم سيفعلون، فتراثهم الفكري المبهر شاهد على ذلك .
* سادساً، هناك أسئلة تتعلق بالدور الذي تلعبه بعض الاستخبارات الغربية والصهيونية بالنسبة إلى استعمال مجانين الجهاد التكفيريين من أجل افتعال حوادث مفجعة مثيرة للسخط والغضب والكراهية، من مثل ما حدث في باريس مؤخراً وما حدث سابقاً في نيويورك في سبتمبر ،2001 بل وما يحدث في أرض العرب من حوادث حقيرة تهدف إلى إثارة الانشقاقات الطائفية والعرقية والقبلية والسياسية .
* سابعاً، أن تسير الملايين في الشوارع وتنشغل الوسائل الإعلامية الغربية ليل نهار احتجاجاً واستنكاراً وحزناً لموت سبعة عشر فرنسياً فهذا تعبير مبهر عن التضامن البشري ضد الإجرام والبربرية، ولكن أن يقتل الجيش الصهيوني أكثر من ألفين من أطفال ونساء وشيوخ وشباب غزة المحاصرة المنهكة، وأن يمارس الاغتيال الفاجر يومياً، وأن يموت المئات يومياً في أرض العرب والمسلمين على يد جماعات إرهابية تدربها وتسلحها وتمولها بعض دوائر الغرب الاستخباراتية، ثم لا يكاد يرى الإنسان أكثر من رد فعل رمزي في شوارع ومنابر إعلام الغرب، فإن ذلك تعبير عن غياب محزن للتضامن البشري وسقوط مخز لحمل مسؤولية الشعارات الإنسانية التي ادعى الغرب أن موجات أنواره الحضارية جاءت عبر ثلاثة قرون لنشرها وترسيخها من أجل الإنسانية كلها .
تظاهرات باريس وعواصم الغرب المبهرة ذكرتنا مرة أخرى بأن الرأي العام الغربي المضلل، مع الأسف معني بحرية وسلام وتقدم مجتمعاته . أما حرية وسلام وأمان وتقدم المجتمعات الأخرى، التي تتآمر عليها جيوش ودوائر حكم وجحافل استخبارات بلدانه فليس هذا من شأنه .