علي جرادات
قرار قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بانضمام دولة فلسطين إلى ميثاق روما وقبول اختصاص محكمة الجنايات الدولية بدءاً من 13 يونيو/ حزيران ،2014 قرار مهم وذو مغزى، سواء لناحية أنه خطوة في إطار خطوات سابقة تسير، وإن بتدرج، على طريق تدويل ملف القضية الفلسطينية وإخراجه من دوامة الرعاية الأمريكية المعادية والمفاوضات الثنائية العقيمة والضارة مع حكومات الاحتلال، أو لناحية أنه يتيح لكل مواطن في دولة فلسطين، ولكل منظمة حقوقية فلسطينية فيها، التقدم بشكوى إلى هذه المحكمة لمقاضاة مجرمي الحرب "الإسرائيليين"، ذلك لأن هذه المحكمة محكمة للأفراد ومحكمة مَن لا محكمة له، ما يعني أن مقاضاة هؤلاء المجرمين صارت في متناول يد كل مواطني دولة فلسطين حتى لو افترضنا أن القيادة الرسمية الفلسطينية ربما تتلكأ في تقديم الشكاوى، أو تُحجم عن تقديمها لحين يطول أو يقصر، ارتباطاً بحسابات سياسية تراعي التهديدات والضغوط متعددة المجالات والأشكال والجنسيات، في مقدمتها ما بُدئ بتنفيذه فعلياً: قرصنة حكومة الاحتلال المتمثلة في قرارها بعدم تحويل عائدات المقاصة المُستحقة ل"السلطة الفلسطينية"، وفق "اتفاق باريس الاقتصادي"، وتهديدات حليف "إسرائيل" الاستراتيجي الثابت الولايات المتحدة بوقف مساعداتها للفلسطينيين، وتحريضها لغيرها من دول العالم والمنظمات الدولية والإقليمية لفعل الأمر ذاته .
وكل ذلك دون أن ننسى ما للولايات المتحدة هذه، (وهي الدولة العظمى الأولى)، من عوامل القوة والحلفاء والنفوذ والتأثير، دولياً وإقليمياً، وما في سجل إداراتها المتعاقبة من عداء ثابت المضمون متغير الأشكال للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة وحقوقه المشروعة، ذلك منذ تولت قيادة دول الاستعمار الغربي خلفاً ل "بريطانيا العظمى" بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية . وهو العداء المُعبر عنه فيما تقدمه، (بسخاء وبلا انقطاع)، للكيان الصهيوني، من دعم مالي وعسكري وأمني وسياسي ودبلوماسي، وفيما اتخذته من مواقف ضد حق الشعب الفلسطيني المشروع في تقرير المصير . وللتدليل لا الحصر، فقد استخدمت الولايات المتحدة في مجلس الأمن 40 "فيتو" ضد مشاريع قرارات إما تؤيد الحق الفلسطيني في تقرير المصير والتخلص من الاحتلال أو تدين "إسرائيل" ك"دولة" احتلال وتطالب بمحاسبتها وإلزامها باحترام القانون الدولي وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية .
مؤخراً استخدمت إدارة أوباما "الفيتو الاستباقي" لمنع حصول مشروع القرار الفلسطيني – العربي ل"إنهاء الاحتلال" على النصاب القانوني اللازم للتصويت عليه، رغم ما أُدخل عليه من تعديلات جوهرية، أملاً في تجاوز "الفيتو" الأمريكي . بذلك أثبتت الولايات المتحدة بما لا يدع مجالاً للشك أو التأويل أن مواقفها من القضية الفلسطينية أكثر "إسرائيلية"، كي لا نقول صهيونية، حتى من بعض الجهات "الإسرائيلية" التي ما انفكت تحذر من عواقب عنجهية سياسة حكومة المستوطنين بقيادة نتنياهو، وبالذات من عاقبة حشر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وإجبارها على تنفيذ تهديداتها بفرط تعاقد "أوسلو" السياسي والتحلل من جميع التزاماته، والأمنية منها بالذات .
وهذا هو الخيار الذي لم يعد أمام القيادة الفلسطينية إلا الإقدام عليه، شاءت ذلك أو أبت، تقدم الأمر أو تأخر، طالما أن المطلب الأمريكي منها هو الامتناع عن تدويل القضية الفلسطينية لمصلحة استئناف المفاوضات الثنائية العقيمة ذاتها التي تُستغل لتعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان والتهويد لما تبقى بيد الفلسطينيين من أرضهم . هذا فيما يعلم الجميع أن عودة القيادة الفلسطينية إلى هذه المفاوضات، كخيار ثبت فشله وضرره، لن تجلب لها إلا المزيد من الخسارة لشعبيتها ومكانتها وتأثيرها . أما لماذا؟
لئن كان العداء الأمريكي و"الغربي" الاستعماري، عموماً، للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة وحقوقه المشروعة هو ما جعل "إسرائيل"، الكيان الاستعماري الاستيطاني العنصري العدواني التوسعي، بل المُخترع والشاذ، "دولة" معترفاً بها، بل "دولة" فوق القوانين الدولية والإنسانية، فإنه المسؤول أيضاً عن وصول نحو 25 عاماً من مفاوضات "مدريد-أوسلو" إلى طريق مسدود لا مخرج منه إلا بمغادرة الإستراتيجية العربية الفلسطينية القائمة على معادلة أن "99% من أوراق حل الصراع بيد الولايات المتحدة" لمصلحة بناء استراتيجية جديدة أساسها القناعة بأن الأساسي من مسؤولية إفشال التوصل لتسوية متوازنة للصراع، فما بالك بالحل العادل له، تتحمله الولايات المتحدة .
بقي القول: لنجاح خطوات القيادة الفلسطينية المتدرجة لتدويل القضية الفلسطينية، بما فيها خطوة الانضمام لمحكمة الجنايات الدولية، ثمة حاجة لتوافر شروط أساسية، أهمها إنهاء الانقسام الداخلي العبثي والمدمر، وتهيئة الحالة الشعبية الفلسطينية وتعبئتها وتحشيدها لكل الاحتمالات، والدعم السياسي والدبلوماسي والمالي العربي لهذه الخطوات . ودون ذلك تفقد خطوات القيادة الفلسطينية، وهي المهمة بلا ريب أو شك، كثيراً من القدرة على مواجهة الضغوط والعراقيل الأمريكية و"الغربية" عموماً، فضلاً عن الإجراءات والتهديدات "الإسرائيلية"، التي تعترض سبيل تحويل هذه الخطوات من خطوات دبلوماسية قانونية مهمة إلى استراتيجية سياسية نضالية جديدة قادرة على تغيير ميزان القوى، والخروج من دوامة خيار المفاوضات الثنائية العقيمة برعاية أمريكية . إن المواجهة السياسية والميدانية الشاملة مع الكيان الصهيوني المدعوم أمريكياً، وغربياً عموماً، قاسية، لكنها مفروضة، ولا مجال لتجنبها أو تأخيرها الذي لن يفضي إلا إلى ابتلاع المزيد من الأرض الفلسطينية وتهويدها، وإلى المزيد من العدوان والاستباحة الشاملة لكل ما هو فلسطيني، وإلى فرض المزيد من حقائق الرؤية الصهيونية وشروطها التي تستهدف تصفية القضية والرواية والحقوق الفلسطينية من جميع جوانبها . تلك هي حقائق ماضي وحاضر ومستقبل الصراع كما برهنت صيرورته الواقعية على مدار قرن من الزمان .