د/ يوسف مكي
الفتوحات العربية أسهمت في تطور وعي العرب لذاتهم. انتصر مفهوم العروبة المستند على اللغة والثقافة واندحر مفهوم النسب على أساس العصبية القبلية.
يحدث التفاعل الإنساني بين الشعوب، بسبب من تمازج الحضارات مع بعضها البعض، بطريق الاتفاق أو القسر، بما يحمل احتمال انتشار لغة الحضارة المهيمنة في بقاع جديدة، غير تلك التي انبثقت منها. وفي حالات كثيرة أدى ذلك إلى هزيمة البنية المجتمعية السائدة، وقيام أخرى على أنقاضها.
وذلك هو بالدقة ما حدث في البنيان الاجتماعي العربي، حين انتقل العرب من عصبية القبيلة إلى الهوية العربية الإسلامية. فقد نتج هذا الانتقال بهزيمة متدرجة للقبيلة، وتصاعد لدور اللغة كعامل حاسم في الانتماء إلى الأمة.
وقد أخذت هذه التطورات مكانها مع استلام العباسيين الخلافة، وكانت مشاركة الفرس فيها إيذاناً باندحار العصبية القبلية، ونجاح نهج المساواة ورفض التمييز. وتزامن ذلك مع بداية النهضة العلمية والحضارية بدولة الخلافة، وتصاعدت بتوسع رقعتها الجغرافية حيث تحوّلت المراكز القبلية إلى مجتمعات حضرية ومراكز للثقافة. وبرزت مدينتا بغداد والبصرة كأكبر مركزين علميين في ذلك العصر، وأصبحتا قبلتين يحج إليهما طلاب العلم من كل أصقاع الأرض.
وابتداء من عهد الخليفة المنصور، دون الفقه والتفسير واستكملت تفاصيل الشريعة، وأيام الناس. وانتقل العرب من مواطنهم القديمة إلى البلدان التي فتحوها حديثاً وامتلكوا الأراضي. فمع نهاية القرن الهجري الأول، بدأ العرب هجرات واسعة إلى الأرياف، إثر اكتظاظ المدن بالسكان، وعجز المراكز الإدارية ومؤسسات الجيش عن استيعابهم وتلبية حاجاتهم. وفي المدن عاود العرب ممارسة التجارة، وضعف وجود من هاجر منهم في الديوان.
وفي ظلّ هذا الواقع، نشأت منظومة قيم جديدة. وبرزت اتجاهات ومصالح تسير باتجاهات معاكسة لخط سير البناء القديم، أحدثت تغيرات جذرية في أساليب وعلاقات الإنتاج، مما أبرز فكرة الانتماء للأرض بديلاً عن الانتماء للعرق. وقد تمت هذه التطورات الجديدة على أنقاض فكرة التنقل والارتحال بحثاً عن الكلأ والماء.
وفي ظل هذا الواقع، تم اختلاط العرب بشعوب البلدان التي شملها الفتح العربي، واتصلوا بغيرهم من الأجناس. وقد ساهم ذلك في انتشار اللغة العربية بين أقوام جديدة. وكانت نتيجة ذلك امتزاج العرب مع غيرهم، مما حقق تماثلاً في القيم والنظر للحياة، ما أدى إلى تضعضع القبيلة وتراجع أثرها. واستمرت حركة التعريب متزامنة مع انتشار الدين الإسلامي طيلة تلك الحقبة. وفي ظل هذا الوضع المتشابك، تطورت فكرة الأمة، من أقوام تتحدد هويتهم على أساس عرقي، إلى شعب ينتمي إلى لغة وحضارة وأرض.
وأصبح متوقعاً أن يترجم ذلك في فكر الأدباء والمؤرخين وغيرهم. وهذا ما نلاحظه منذ بداية القرن الثالث الهجري لدى الجاحظ وابن قتيبة وأخيراً عند ابن خلدون، فهم يرون أن اللغة العربية وليس العرق أساس الانتساب للعرب. وقد أشاروا إلى العلاقات المشتركة للجماعة كعامل من مكوّنات الأمة، وإلى القيم والسجايا العربية كعوامل أخرى.
ومع التطور الجديد الذي طرأ على حياة العرب باتجاههم للزراعة، ومعاودتهم للتجارة، ضعف وجودهم في الديوان، وطغت العناصر الفارسية في عهد الخليفة العباسي المأمون، والتركية فيما بعد في المراحل التي أعقبت وصول الخليفة المتوكل إلى الحكم. وبالقدر الذي ضعف فيه المركز السياسي للعرب، فإن ابتعادهم عن مركز الخلافة أدى إلى انتشارهم واتصالهم بغيرهم، ومن ثم إلى انتشار اللغة العربية. وكان ذلك سبباً آخر في انتشار الإسلام وتعمق أثره في الحياة العامة من جهة، وهزيمة لمفاهيم القبيلة والعشيرة من جهة أخرى، حتى وإن بقيت شذرات من تلك المورثات الاجتماعية، تبرز في قصيدة ونثر بين حين وآخر.
ومع ما كان للإسلام من أثر مباشر في شيوع العربية وتجذرها، فإن مسيرة التعريب لم تكن متوازيةً مع امتدادات الدعوة الإسلامية. فهناك من اعتنق الإسلام ديناً ولم يقبل بالعروبة انتماء، والعكس صحيح. فعلى سبيل المثال، رحب مسيحيو الشام ومصر والعراق بالفتح العربي، وشكّلوا قوافل مسلحة من أجل نصرته، ولكن نسبة منهم بقيت متمسكة بديانتها المسيحية.
ويمكن القول إن مسيرة التعريب تأثّرت بعدة عوامل، منها نسبة التواجد الذي كان عليه الحضور العربي قبل الإسلام في المناطق التي أصبحت هدفاً للتعريب، حيث وضع ذلك الحضور، بشكل فاعل ومؤثر، اللبنات الأولى في تلك المسيرة، ما جعلها تسير بخطى حثيثة بعد الفتح العربي. أما العامل الآخر فهو أن اللغات التي تحدّثت بها معظم الشعوب في المناطق المحيطة بالجزيرة العربية انحدرت من أصول واحدة. فاللغات الآرامية والسيريانية والعبرية والعربية في أصولها سامية المنشأ.
وفي بلدان أخرى، لم تكتمل مسيرة التعريب بنجاح، واقتصرت على بعض المناطق بسبب غياب العنصر العربي، والطبيعة الجغرافية والموروثات الثقافية. كما حدث في شمال العراق والجزء الجنوبي من وادي النيل، وبعض مناطق أفريقيا العربية. وفي إيران اقتصر الوجود العربي على المدن في جماعاتٍ من المقاتلة والتجار وأهل الحرف. وربما يرجع ذلك لوجود موروث حضاري عريق في تلك البلاد. ولأن اللغة والتراث الفارسي ظلا غريبين على العربية، فقد عادت لإيران هويتها الفارسية إثر سقوط دولة الخلافة، وأعيد بعث لغتها القديمة، رغم أنها أبقت على معتقداتها الإسلامية.
ومن المعروف أن العربية أضحت اللغة الرسمية في جميع المناطق التي شملها الفتح العربي، إلا أن تداعي دولة الخلافة أدى إلى قيام كيانات سياسية جديدة ألغت العربية، وبعثت لغاتها القديمة، كما حدث في الهند والأندلس.
والخلاصة أن الفتوحات العربية، أسهمت في تطور وعي العرب لذاتهم. انتصر مفهوم العروبة المستند على اللغة والثقافة. واندحر مفهوم النسب على أساس العصبية القبلية، فبرز رواد عظام وضعوا لبنات راسخة في تراثنا الخالد من أمثال أبي بكر الرازي وابن سينا وبشار بن برد وابن المقفع وسيبويه والحسن بن هاني والبخاري، وكثير غيرهم ممن انحدروا من أصول غير عربية.