فاضل الربيعي
لماذا افترض اوباما أن الحرب على داعش تتطلب 30 عاماً ؟ ولماذا عاد جنرالاته للقول إن الحرب سوف تستغرق 3 أعوام؟ هل ثمة زلة لسان أو خطأ في التقديرات؟ أم أن الولايات المتحدة خفضّت السقف الزمني للحرب؟ إن فهماً عميقاً لنظرية (التفكيك المتوحش) تتطلب التأمل في الوقائع ودراستها، بعيداً عن التمنيات والأحلام، وأكثر من ذلك، دراسة وقائع التاريخ القريب. لقد حقق الاستعمار القديم ( 1914-1945) أهم اهدافه في الشرق العربي قاطبة : إنشاء إسرائيل ( كدولة قومية للشعب اليهودي حسب نص وعد بلفور) وتحديد دورها الوظيفي، بوصفها الدولة الحاجز التي تعزل مصر عن بلاد الشام. اليوم، يسعى الاستعمار الجديد، هو الآخر لتحقيق أهم أهدافه : إنشاء ( دولة الخلافة الإسلامية ) وتحديد دورها الوظيفي بوصفها الدولة الحاجز التي سوف تعزل بلاد الشام عن إيران. إن وجود دولتين دينيّتن، يهودية وإسلامية تمسكان بقلب العالم العربي، وتقومان بعزل جسده المقطّع الأوصال عن مصر وإيران، هو ذروة التفكيك المتوحش.
وإذا ما تحقق ذلك في غضون السنوات الثلاث المقبلة، فسوف يكون المشرق العربي برمتّه وخلال ما يقرب من 100عام فقط ( 1917-2017 ) قد تحوّل إلى كيانات مبعثرة ومتناحرة ولكن داخل كمّاشتين جغرافيتين، لا يملك حيالهما سوى الإذعان والتعايش. أي أن العرب سوف يجدون أنفسهم، وقد أرغموا لا على التعايش داخل فضاء جغرافي- ديني جديد ( يهودي- إسلامي) لامكان فيه للمسيحيين ( الذين يخطط الغرب لتهجيرهم ونقلهم لأوربا المسيحية) وحسب؛ وإنما التحوّل إلى ما يشبه إمارات الأندلس الضعيفة والمتخاصمة ، حيث تسعى كل إمارة إلى استرضاء الدولة اليهودية أو الدولة الإسلامية. إن كلام أوباما عن 30 عاماً من الحرب ضد داعش، ليس زلة لسان أو ضرباً من ضروب الخيال. إن لهذا السقف الزمني معنىّ عميقاً في التجربة الاستعمارية، فقد تطلب التفكيك المتوحش للمشرق العربي خلال سنوات الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، إطلاق موجة ( يهودية متوحشة ) اندفعت بسرعة وزخم وأدّت إلى وقوع مجازر مرّوعة ضد المدنيين العزل، وجرى فيها ابتلاع أراضٍ واقتلاع شعب بأكمله، وظهور ( دولة يهودية ).
لقد شرع الاستعمار القديم في تحقيق هدفه هذا منذ عام 1917 مع إعلان وعد بلفور بإعطاء فلسطين ( دولة للشعب اليهودي). ولكن، بعد 30 عاماً فقط، حدث تقسيم فلسطين ونشأت دولة إسرائيل. ليس دون معنى ابداً أن إنشاء ( الدولة اليهودية) استغرق ثلاثين عاماّ وعد بلفور : 1917 ، تقسيم فلسطين 1947 ؟
لقد كان السقف الزمني كافياً لكي تهدأ ( الموجة اليهودية المتوحشة) وتبرد الحمى الدينية، وينصرف الآباء المؤسسّون لبناء مشروع دولة (ديمقراطية) تلتزم قيم الغرب. وخلال هذه العقود الثلاثة سوف ينسى الناس البسطاء نتائج التوحش، وتشطب الوقائع ويُكتب تاريخ رسمي آخر لا يشير إلى الجرائم. اليوم، يعود الاستعمار الجديد مُستلهماً تجربة الكولينيالية الكلاسيكية السابقة، فيحددّ سقفاً جديداً لقيام الدولة الحاجز: دولة الخلافة الإسلامية خلال 30 عاماً أيضاً. وكما في الماضي، فسوف تكون هذه السنوات الثلاثين، كافية لكي تهدأ موجة (التوحش الإسلامي) وتبرد حمّاها الدينية ؛ بينما ينصرف الآباء المؤسسّون لبناء مشروع ( دولة ديمقراطية تلتزم قيم الغرب). لكن هذا التصورّ النظري الذي يعيد الأمريكيون إنتاجه، يخفي تضليلاً مرّوعاً، فالنموذج الإسرائيلي بوصفه نتاج موجة دينية متوحشة، انتهى فعلياً إلى بناء (دولة متوحشة) في المنطقة، وليس (دولة ديمقراطية).
وهذا هو المآل المحتوم للنموذج الإسلامي، فهو بوصفه نتاج موجة دينية متوحشة ، سوف ينتهي إلى بناء دولة متوحشة أيضاً. وبذلك،سوف يصبح المشرق العربي تحت رحمة (دولتين ) متوحشتين، تؤديان الوظيفة ذاتها، وستقوم إحداهما بعزله عن مصر، والأخرى بعزله عن إيران. إن هذا الوضع الجيوسياسي هو وحده الذي سوف يمّكن الغرب الاستعماري من إنشاء نظام تكامل أمني إقليمي، يتلاشى فيه إلى الأبد مفهوم الأمن القومي العربي، ويحل محله نظام أمني ثلاثي : إسرائيل، تركيا ، الدولة الإسلامية، يتولى وحده مسؤولية تنظيم العلاقات الأمنية والسياسية في المنطقة. وفي وضع من هذا النوع، سوف يصبح الحلم ب ( دولة فلسطينية عاصمتها القدس ) أشبه بحلم ليلة صيف أو ضرباً من الخيال، ذلك أن قيام دولة الخلافة الإسلامية لن يكون ممكناً إلا بعد إنجاز التفكيك المتوحش لجغرافية العراق وسورية.
إن تزامن التطورات الجارية في ما يدعّى أنه حرب عالمية ضد داعش، مع دعوات ( الإقليم السنيّ في الأنبار) كما أوضحته مجريات مؤتمر أربيل الأخير، يؤكد أن الأحداث والتطورات العسكرية- الميدانية خلال السنوات الثلاث القادمة في العراق وسورية سوف تتمحور في التالي :
1: تصعيد الدعوات لتسليح عشائر الأنبار، أي تشكيل ( قوة مسلحة سنيّة غرب العراق) تحت غطاء الحرب على داعش . إن انعدام الثقة بين بغداد وشيوخ العشائر في الأنبار، ناجم بدرجة رئيسة عن وجود مخاوف من تحول القوة المسلحة إلى قوة ( إنفصالية ) . وهذا حقيقي، ذلك أن المخطط الأمريكي- الغربي لتفيكك العراق،يقضي بمنح ( سّنة الإنبار) إنتصاراً لامعاً ضد داعش، بما يسمح لهم بفرض الحق في إقليم؟ وهذا ما سوف يؤدي تلقائيا خلال السنوات الثلاثة القادمة إلى نشوب صراع سني- شيعي، مع تصاعد الدعوات لإقامة ( إقليم شيعي) ردّا على ( دعوات الإقليم السنيّ). إن تفكيك العراق ابنداء من غربه ( السنيّ) سوف يساهم في خلق كيان شيعي في الجنوب. وهذا ما يفسرّ لنا السبب الحقيقي لتصريحات أوباما الأخيرة وقادة أركانه وجنرالاته أن الحرب على داعش تتطلب 3 سنوات؟ إن تقليص السقف الزمني من 30 إلى 3 ، هو تضليل وخداع. ليس ثمة تعديل على السقف الزمني؛ بل إعادة ( تقسيطه ) وبحيث تصبح السنوات الثلاثة القادمة هي سنوات ( فصل الأنبار) ولسيت لتحطيم دولة الخلافة. أي انها سنوات مكرّسة فقط لتحقيق القبائل والعشائر السنية في الأنبار لانتصار محسوب بدقة، يجبر داعش على التراجع عن (الإقليم) وإرغامه على مغادرة الأنبار لصالح ( دولة سنية غرب العراق) وفي الآن ذاته ، السماح لداعش ببناء دولة الخلافة في عاصمتها الكبرى : الموصل.
2: في حال قيام الإقليم السني في الأنبار، سوف يسعى زعماء القبائل فوراً ودون ترّدد إلى الإندماج بالأردن. وهذا أمر لم يعد مخفياً ، ذلك أن كثرة من شيوخ الأنبار يجاهرون اليوم بهذه الدعوة.
3: ولذلك، فمن المتوقع أن تلعب الجماعات المسلحة التي تدّربها تركيا وقطر لارسالها إلى سورية تحت غطاء ( خلق قوة معتدلة قوية لمحاربة داعش على الأرض)، دوراً محورياً في جنوب سورية أي في منطقة حوران، وبما يمكنّها من فصل درعا عن سورية. إن التزامن بين الدعوة لتسليح عشائر الأنبار، مع تدريب جماعات مسلحة لتتمركز في درعا السورية ، يؤكد أن نسق التفكيك المتوحش ينطوي على ترابطات وثيقة في الوقائع الجارية. وإذا ما حدث هذا التطور الخطير؛ فلن يكون أمام درعا سوى الالتحاق بالاردن. إن مستقبلها ككيان جغرافي تحت سيطرة مسلحين معارضين، محكوم بعلاقتها مع الأردن، لأن كياناً من هذا النوع لا يمكنه العيش في ( فراغ ) جغرافي؟ سوف يفتش عن الحل الوحيد المتروك أمامه للبقاء حيّاً: أن يلتحق بحغرافية الأردن.
4: وفي هذه الحالة سوف يصبح الأردن الصغير ( أردن ) كبيراً، هو خلاصة دمج غرب العراق بشرق الأردن بجنوب سورية، وهذا هو الوضع المثالي لقيام كيان جديد على أنقاض العراق الممزق: ( المملكة العراقية الهاشمية )
5: وهو في الآن ذاته، وضع مثالي للتخلص من الصداع الفلسطيني التاريخيّ بخلق ( وطن بديل ) جديد للفلسطينيين، وبحيث تصبح مسالة إبتلاع اسرائيل للضفة الغربية كاملة وتهجير سكانها، أمراً مفروغاً منه كهدف مركزي إسرائيلي, وفي هذه الحالة، وبعيداً عن التمنيات والأحلام، توقعوا حدوث ترانسفير جديد يرمي سكان الضفة الغربية في الأردن، ليتم توطينهم تالياً في الأنبار.
6: إن تطورات من هذا النوع هي التي سوف توفر لإسرائيل، كل الذرائع والمبررات لفرض حل جديد للمسألة الفلسطينية : إقامة ( دولة فلسطين الإسلامية ) على أرض غزة الممتدة في عمق سيناء.لكنها ليست دولة ( بالضبط) بأكثر مما هي ( ولاية إسلامية) ترتبط روحياً وسياسياً بدولة الخلافة.
ليس هذا مجرد سيناريو خيالي – كما قد يتصورّ بعض السذج من القرّاء-. إنه خلاصة التفكيك المتوحش الذي يجري اليوم أمام أنظارنا .
وعلى الذين تفزعهم هذه الحقائق، ولا يريدون تصديقها ويسارعون بحمق إلى رفض التفكير بها كمخاطر واقعية، أن يتذكروا أن دولاَ أقوى بكثير من الدول العربية تلاشت عن مسرح التاريخ خلال السنوات العشرين الأخيرة: الإتحاد السوفيتي، يوغسلافيا، جيكوسلوفاكيا. واليوم تتلاشى دولة قوية وفتية مثل أوكرانيا، وتتفككّ لخمس دويلات؟
ترى، ما هو المغزى الحقيقي لارسال مدّربين من النيتو إلى العراق؟ ولماذا تتدفق قوات ( المستشارين الأمريكيين) كل يوم؟