عاصم عبد الخالق
الحكماء يعرفون ويرددون دائماً أن نصف الحقيقة كذبة كاملة، وفي قول آخر للحكماء أيضاً، فإن نصف الحقيقة أكثر خطورة من الباطل . من يؤمن بهذه الحكمة لا بد أنه سيتذكرها جيداً وهو يتابع، مبهوراً أو مستاء، الضجة الكبرى التي يثيرها حالياً تقرير التعذيب الصادر قبل أيام عن الكونغرس الأمريكي .
التقرير يفيض بتفاصيل مروعة عن جرائم وفظائع ارتكبها محققو وكالة الاستخبارات المركزية بحق المعتقلين بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 . هذه الجرائم التي رصدها التقرير، أو رصد بعضها إذا شئنا الدقة، هي حقائق مؤكدة وإن لم تكن جديدة، غير أنها جاءت ناقصة . فما ذكره التقرير ليس هو كل ما جرى، وما خفي من المؤكد أنه أعظم وأشد هولاً من كل ما ذكر .
غير أن الإخراج الهوليودي المبهر الذي تم به تقديم التقرير إلى العالم والرأي العام الأمريكي أخفى هذه الحقيقة الجوهرية، وانشغل المتابعون بالجانب المعلن فقط . ولم يدخر الأمريكيون وسعاً في استثمار قدراتهم ومواهبهم في حشد كل عوامل الإثارة والتشويق الممكنة قبل وبعد إصدار التقرير جذباً لانتباه الجمهور صوب ما أرادوا أن يعرفوه دون سواهم .
وفي هذا الإطار تقاسم الحزبان الجمهوري والديمقراطي الأدوار ببراعة وإتقان . الأول حذر من إصدار التقرير الخطير خوفاً من هجمات إرهابية ضد المصالح الأمريكية في العالم . والثاني أصرّ على كشف ما قال إنه الحقيقة لتأكيد الالتزام بالشفافية والنقد الذاتي . وأكمل الإعلام وجوقة من السياسيين العرض بالحديث عن الاعتراف بالإثم الذي يطهر الضمير الأمريكي ويبيض صفحة الإدارة ويبرئ ذمتها لمجرد أنها اعترفت بالذنب (لا تسأل عن عقاب المذنب كخطوة تالية وتلقائية) .
المعنى الذي يفترض أن يستقر في وعي الرأي العام المتابع لكل هذه التحذيرات والمخاوف من نشر التقرير الخطير هو أن ما سجله التقرير من جرائم هو كل ما جرى . أي أن ما اقترفته واشنطن من فظائع لا يزيد عما جاء في هذا التقرير الذي كانوا يفضلون ألا يظهر .
هذا بالطبع تضليل وخداع يتم تمريره عالمياً وأمريكياً بقدر هائل من الحرفية والدهاء . ومن ناحية الشكل فإن ما أعلن هو ملخص للتقرير الأصلي الذي أعدته لجنة الاستخبارات ويقع في أكثر من ستة آلاف صفحة . بينما لا يزيد الملخص المعلن على 480 صفحة أي أن 80% مما رصدته اللجنة وسجلته لم يعلن، ولن يعلن بالطبع . معنى هذا أن الحديث يجري عن أقل من 20% فقط من الحقائق والتفاصيل .
يضاف إلى هذا أن التقرير المختصر خضع هو نفسه للمراجعة والحذف من قبل المخابرات وهذه حقيقة معروفة حتى ولو كان المعلن رسمياً أن البيت الأبيض هو الذي قام بالمراجعة . ولا يفوتنا هنا الاتهام الذي كانت رئيسة اللجنة قد وجهته للمخابرات بالتجسس على أعمال لجنتها .
أما من ناحية المضمون فإن التقرير إجمالاً يرسخ اعتقاداً غير صحيح أن الجرائم التي وقعت كانت حالات منعزلة تورط فيها محققون من المخابرات ولم تكن أعمالاً منهجية ذات طبيعة مؤسسية أقرت على أعلى المستويات . هذا فضلاً عن الهدف الخبيث الآخر الذي أشرنا إليه وهو سعي واشنطن لتسويق فكرة أن ما يرصده التقرير من تجاوزات هو حصراً كل ما حدث .
ومن اللافت للنظر أن التقرير يتحدث عن الانتهاكات التي تعرض لها 119 معتقلاً في سجون المخابرات المركزية، في حين أن المؤكد أن عدد المعتقلين لديها منذ سبتمبر 2001 يفوق هذا بكثير، وأن عددهم لدى الأجهزة الاستخبارية والعسكرية الأخرى يتجاوز الآلاف وليس المئات وهو ما لم يأت التقرير على ذكر له .
ثغرة موضوعية أخرى في التقرير وهو أنه أعتمد فقط على مراجعة وفحص سجلات ووثائق المخابرات . ورغم الجهد الهائل الذي بذله محققو اللجنة خلال عملهم المضنى الذي استغرق نحو خمسة أعوام راجعوا خلالها حوالي ستة ملايين وثيقة وتسجيل، إلا أن اللجنة لم تلتق أياً من مسؤولي المخابرات المتهمين بممارسة التعذيب أو تسهيله أو السماح به، كما لم تلتق المعتقلين أنفسهم .
الغريب أن التقرير أغفل توجيه الاتهام إلى أي مسؤولين سياسيين أو عسكريين . ولم يجب عن السؤال الطبيعي بعد هذه التحقيقات المكثفة وهو من أعطى أوامر التعذيب . لم يحمّل التقرير بوش وأفرد إدارته مسؤولية مباشرة، بل فتح لهم ثغرة للبراءة بأن أعلن أن المخابرات ضللت الإدارة والكونغرس والرأي العام، وهو ادعاء تكذبه عشرات التقارير الصحفية التي نشرت منذ سنوات عن فضائح التعذيب في السجون الأمريكية سواء في أبو غريب أو غيره . أي أن الجميع كان على علم بما يجري .
الأسوأ من كل هذا أنه لن تتم محاسبة أحد، وأن التقرير لن يمثل أساساً قانونياً لأي ملاحقات قضائية للمسؤولين عن التعذيب . وهناك ما هو أسوأ فلا يوجد ما يحول دون تكرار ما حدث حتى في ظل القرار التنفيذي الذي وقعه أوباما عام 2009 بمنع التعذيب . أولاً لأنه قرار وليس قانوناً، وثانياً لأنه بوسع أي رئيس قادم أن يصدر ما ينقضه، وثالثاً لأن الكونغرس بجمهورييه وديمقراطييه لم يتحرك أبداً لإصدار تشريع يجرم التعذيب .
وأخيراً لا نستبعد الأسوأ لأننا حتى هذه اللحظة لم نعرف من وقائع ما جرى من جرائم سوى قمتها الطافية فقط، أما الكتلة الهائلة فما زالت قابعة في ظلمات الدهاليز الاستخبارية، ويبدو أنها ستظل هناك إلى أجل غير مسمى .