بقلم اسماعيل أبو البندورة – الأردن
لم يسعف الاستراتجية الاستعمارية الأمريكية في تحقيق مشروعها والدفاع عن مصالحها ومصالح الكيان الصهيوني في الوطن العربي أية مناخات أو ظواهر وأفكار وقوى، بمثل ما أسعفتها به في العقدين الآخرين فكرة "محاربة الإرهاب" "الإسلام الجهادي" وحديثاً "خطر داعش".
ومثلما كانت "فوبيا الإسلام والقاعدة" في المراحل السابقة العنوان والفزاعة التي ابتزت بها القيادة الأمريكية شعوبها وشعوب العالم، وأحدثت في عقلها خوفاً وتخويفاً وسواسياً لا مثيل له، لا يزال يفعله فعله حتى اللحظة، هاهي تعيد أنتاج هذه الفوبيا المضخمة مجددا للعبور من خلالها لتحقيق استراتيجيات وأجندات غامضة وخفية برؤية صهيونية متوترة واستباقية.
لقد صنعت هذه الاستراتيجيا الاستعمارية "القاعدة" ومشتقاتها وأخواتها في لحظة معينة أو منذ أيام أفغانستان، وأصبحت توظفها أو توظف اختلافها معها في الرؤى والبرامج في خطط ومشاريع مختلفة وفي احداث وبناء "الفوضى الخلاقة" أو الهلاكة عندما يتسنى لها ذلك، وهذا ما فعلته وطبقته في العراق أثناء احتلاله، فأعادت انتاج وبعث "القاعدة" وأخواتها بعد اقتراب أفولها واضمحلال قواها، وفتحت أبواب العراق لكل القوى الإرهابية والعصابات والمليشيات الطائفية، لكي تعيث في الأرض فساداً وإفساداً وتمزق النسيج الاجتماعي للمجتمع.
كانت هذه القوى تنمو وتكبر وتمتد تحت أنظار الاحتلال وقواته، وكانت ترسّخ أقدامها في العراق وفي دول المنطقة بأكملها، ولم تكن ادارة الاحتلال لتحرك ساكناً أو تحشد القوى كما تحشد الآن لمواجهة "خطر الإرهاب".!
إذن هي لعبة "غميضة – غامضة" قاتلة وافتراسية من ألعاب الأمريكان ومن يؤيدهم في أوروبا والعالم والمنطقة العربية، وذلك من أجل خلق فضاء استعماري مفتوح ومتواصل في المنطقة العربية، ومن أجل مواصلة عملية التفكيك والتركيب الاستعمارية – الصهيونية التي لن تنتهي كما يبدو في وقت قريب. وإلا ما معنى السكوت عن "داعش" منذ انطلاقها حتى الآن؟ ولماذا هذا الصمت عن عمليات التفريخ الإرهابية المتواصلة وعدم محاصرتها واقتلاعها من الحواضن والبيئات التي تعشعش فيها؟ ولماذا لم تكن هناك رؤية موحدة ومعايير واضحة للحكم على الإرهاب وأخطاره وطريقة مطاردته؟
الأمريكان كما يبدو فشلوا في الغزوة الأولى على العراق عام 2003، ولم يحققوا مشروعهم بالكامل، فلم يقيموا استقراراً ونظاماً تابعاً قوياً! أو ديموقراطية مزيفة كما ادعوا أمام العالم!، كما لم يقدروا من خلال الحكومات العميلة التي قاموا بتعيينها وإملاء القرارات والتعليمات عليها، إنتاج أي بديل سياسي منطقي ومقنع عن النظام الوطني في العراق، وازدادت الثورات والاحتجاجات الشعبية على الحكم العميل الموالي لأمريكا وإيران، وبدأت هذه الثورة الشعبية تستقطب قطاعات واسعة من أبناء العراق إلى أن وصلت إلى مشارف بغداد، وغطت أكثر من ثلثي الأراضي العراقية. وبدأ الأمريكان يلحظون الفراغ الكبير المهدد بالخطر الذي استحدثوه في العراق، ومحاولة إيران إشغاله وتوظيفه في بناء مشروعها الإقليمي وابتزاز الإقليم والمنطقة، والمساومة على العراق لبناء الدور الإقليمي لإيران في المنطقة.
كل ذلك جعل الأمريكان يراجعون ويتراجعون ويؤسسون لرؤية استراتيجية جديدة تتعارض مع كل ما طرحه "أوباما" والإدارة الأمريكية في السابق، وبدأ التراجع لديهم بأشكال مريبة مختلفة، لكن القرار البارز والملاحظ بقوة في هذه الاستراتيجية، أنه لابد من تصحيح نتيجة احتلال العراق عام 2003 وتغيير ملامحها بالعودة المفاجئة لاحتلال العراق وبطرق استخبارية خبيثة من أجل تطويق الثورة الشعبية المندلعة في العراق ووقف امتدادها وتشتيتها، إعادة تأهيل إيران وترتيب دورها في العراق والمنطقة وتقاسم النفوذ معها بطريقة غير صراعية ومنسجمة مع ما كان بينهما من مساومات ومقايضات، توطين فكرة التقسيم في العقل والواقع العراقي وجعلها خياراً جدياً لأبناء العراق، وتأكيد انفصال الإقليم الكردي وتقوية استقلاله ودوره في مستقبل العراق، القيام بأعمال حربية جزئية ومحدودة في الإقليم للقضاء على بعض حلقات التأثير والمعاندة في بعض أطرافه. وسوف يكون كل ذلك تحت عنوان "مقاومة داعش والإرهاب وتهديدهما للاستقرار والسلام في المنطقة"، وسوف تذهب "داعش" كما ذهبت "القاعدة" من قبل إلى الهامشية والأفول والاغتباط بالتجديف والهرطقة.