اسماعيل أبو البندورة
ندخل الآن مرحلة جديدة واستثنائية من الانعدام والتصهين بأن لا يكون بعض العرب على الأقل على الحياد أو اللامبالاة ازاء محرقة غزة وبسالتها،ذلك أننا أصبحنا نلاحظ أن هذا البعض المتصهين عاد لاستنهاض أسوأ ما في التاريخ والهذاءات السياسية التناحرية، بأن نصبح أو نصطف في مثل هذا الوضع الصعب والحرج مع الاعداء ومزاعمهم، أو نكون وسطاء بين المجرمين الصهاينة وبين المقاومة التي تريد أن تفتح أفقا سياسيا مقاوما " وقد افتتحته "، واجترحت صفحات جديدة من صفحات البطولة النادرة في زمننا، أو بأن نتغاضى عن القتل والجرائم الصهيونية العنصرية، ونهزأ بالصواريخ التي تخترق قلب العدو وكيانه، ونردد كلاما أبلها وملتبسا وخيانيا عن التهدئة ووقف اطلاق النار، وعن اليد التي يجب أن تخنع للمخرز.
وندخل شعبيا فيما يمكن أن نطلق عليه الغضب الشعبي الرخو، الذي يتحول أمام الجرائم الصهيونية الى موقف تأملي ونداءات صامتة مكتومة ومكبوتة في داخل الأفراد لا تقدم ولا تؤخر، ومن الصعب أن تتحول " في استكانتها " الى فعل وارادة شعبية تستجيب لمتطلبات الدفاع الجدي عن فلسطين، ولذا فهي تبقى زفرات من بعيد، أو مكبوتات مضمرة وعداءا كلاميا للصهاينة ومن يقف معهم من الأنظمة العربية. وتلك حالة من حالات اعادة انتاج الهامشية والبقاء على الهامش، أو على رصيف الانتظار واجترار الكآبة السياسية، والاستمرار في البطالة النضالية الى أمد طويل. وهذا النمط من السايكولوجيا المحبطة والخامدة هو من يشجع كل مارق وقاتل على مروقه وايغاله في القتل، ذلك أن الأمر يبقى حبيس الوجدان والتنفيس والتعويض عن القصور وتكون المسيرة أو المهرجان البديل التعويضي عن الموقف الجماهيري المطلوب والمأمول، مع أنه لابد دائما من اجتراح أجوبة شعبية جديدة وطويلة الأمد تحول الغضب الى صياغة حالة جديدة في عقل وواقع الأمة.
ولأن المجرمين الصهاينة قد اختاروا لحظة قاتمة واستثنائية في التاريخ العربي فيها فوضى عارمة واقتتال داخلي وجرائم عربية تفوق التصور لكي يغطوا ويموهوا الجانب الاخلاقي في الجرائم وصياغة اقتران ومناددة بين القتل الصهيوني والقتل العربي حتى تخف وطأة الضغوط الاخلاقية عليهم، ولكي يمعنوا في الاجرام والقتل الى حدوده القصوى.
ونحن على كل حال لم ولن نكون من يصنع لهم الفضاء ومناخ الاجرام. مع أن لسان حال بعض الأنظمة العربية يقول ويهذي بأن اجراما عن اجرام يفرق!! ذلك أن القتل كان منطلقا وعقيدة للحركة الصهيونية العنصرية، واسلوبا بربريا تعاملوا فيه معنا منذ بدايات تأسيس الكيان وحتى هذه اللحظة، وهم بهذه المثابة لا يحتاجون الى الدوافع والمقارنات، ولن تغريهم مقتلة عربية سلطوية هنا أو هناك، وانما هم يريدون أن يتخففوا من بعض العبء الاخلاقي ازاء من يدعمونهم ويقفون وراءهم وليس من العبء كله، والاخلاق على كل حال لن تكون من سمات ومآثر المجرمين وهي في جوهرها نقيض للعنصرية والفاشية العنصرية الصهيونية،
كما أنها لا تحتل لديهم المكانة المتأصلة في الضمير الانساني والناموس البشري.
ونقول أن محرقة غزة ومأساتها تحتاج في المرحلة الراهنة الى ما هو أكثر وأشدّ من الغضب الرخو وفورات وزفرات الوجدان، وذلك بأن تشتعل فلسطين دعما لها، وبأن تجري تحولات كثيرة على المشروع الوطني الفلسطسني لكي يكون مشروعا مقاتلا ومقاوما وموحدا في كل الارض الفلسطينية، وأن تجترح القوى الوطنية والقومية في كل الدول العربية موقفا قوميا موحدا ازاء ما يجري في فلسطين والحؤول دون عقد الصفقات والمؤامرات التي يمكن أن تقدم عليها بعض الأنظمة لتحويل النضال الفلسطيني ومحرقة غزة الى أوراق سياسية أو اقليمية لاستمداد المواقف واحراز الادوار.
معركة غزة هي معركة الامة بأكملها، وبسالة غزة تفتح أفقا جديدا في حياة العرب وتضعف العدو والكيان الصهيوني وتقهر فاشيته وغطرسته، ولابد من نهوض شعبي يكون في مستواها، وعقل جماهيري يفهم مغازيها.. وعلى غزة وفلسطين أن توحدنا عقلا ووجدانا، لكي نصنع الأمل من هذا الألم.