إفتتاحية طليعة لبنان الواحد لشهر تموز 2014
العراق من ثورة التغيير إلى ثورة التوحيد والتحرير
من يطل على المشهد السياسي العام الذي يخيم على الوضع العربي، تنتابه الحيرة عند أي من الأحداث يتوقف.
هل يتوقف عند الحدث الليبي، حيث التفلت السياسي والأمني على أشده، أم يتوقف عند الحدث المصري الذي سبب ارتجاجاً في معطى الداخل والعلاقات مع الخارج وما تزال إعادة تركيز الأوضاع على قواعد ثابتة تتلمس طريقها وسط حقول من الألغام السياسية والأمنية.
هل يتوقف عند سوريا، حيث الصراع المتفجر تجاوز حوله الثالث، دون أن تلوح في الأفق بوادر إنتاج تسوية سياسية، بسبب تمترس الأطراف عند مواقفها الأصلية وكأن شيئاً لم يحصل منذ الخامس عشر من آذار 2011.
أم عند لبنان الذي يعيش حالة انكشاف سياسي وأمني وتتعثر محاولات ملء الشواغر في المواقع الدستورية ويجاهد للحد ما أمكن من تأثيرات الهزات الارتدادية للزلزال السوري عليه، مروراً باليمن الذي تعثرت الآليات التنفيذية للحل الانتقالي لضعف المناعة الوطنية الداخلية من جهة والتدخل الإقليمي من جهة أخرى وتوقفاً.
عند فلسطين التي يلفها زنار النار الصهيوني في جولة عدوانية جديدة كانت غزة مسرحها العملاني كما في المرات السابقة، ومنها إلى العراق الذي اختاره التحالف الصهيوني –الأميركي نقطة انطلاق لإعادة رسم الخارطة السياسية للوطن العربي والحوض الآسيوي الشرق أوسطي تحت مسمى "الشرق الأوسط الجديد".
إن كل هذه الأحداث التي تشهدها الأقطار العربية ترتبط ببعضها البعض بأسبابها واستتباعاً بنتائجها، وحال علاقاتها، كحال الأوعية المتصلة.
وإذا كان كل حدث يحتاج إلى مطولات للإحاطة به، إلا أن ما يجب التوقف عنده هو الحدث العراقي، ليس لأن حدث فلسطين أقل أهمية رغم سعي بعض الأطراف الدولية والإقليمية توظيف معطياته في سياق تنفيذ أجنداتها السياسية ومنها الملف النووي الإيراني، وليس لأن أحداث سوريا ولبنان ومصر وليبيا واليمن وكل الاختلاجات في الوطن العربي ليس ذات أهمية، بل لأن الحدث العراقي يحتل ذو إستثنائية لأنه على ضوء نتائجه الموضعية تترتب النتائج العامة على مستوى الكل العربي وعلى مستوى العلاقات مع الإقليم والوضع الدولي. ولو لم يكن العراق يتبوأ هذه المركزية من الأهمية، لما كان اختير كنقطة استهداف أساسية من التحالف الصهيو-الأميركي، وكل من يناصب الأمة العربية العداء خدمة لمشاريع سياسية حديثة وإما استحضاراً لثأر تاريخي من العرب وإما للاثنين معاً.
لقد وضع العراق ضمن دائرة الاستهداف المركزي يوم اختيرت بغداد لأن تكون مقراً للحلف المركزي أو ما عرف يومذاك "بحلف بغداد" تنفيذاً لاستراتيجية أميركية عبر عنها بمشروع أيزنهاور لملء الفراغ في المنطقة الناجم عن انكفاء النظم الاستعمارية القديمة التي لفظت أنفاسها بعد حرب السويس. و أنه بعد ثورة 14 تموز 1958 بكل الظروف العربية والدولية المحيطة بها، والتي وجهت ضربة للحلف المركزي، أعيد التركيز على بغداد مجدداً، بعد ثورة 17 تموز 1968، و خاصة بعد القرار التاريخي بتأميم النفط في الأول من حزيران / 1972.
وإذا كانت ثورة تموز /1958 قد دكت إسفيناً في بنيان الحلف المركزي، فإن ثورة تموز الثانية 1968 وعبر إنجازاتها، لم تدك إسفيناً في بنيان الاحتكارات النفطية وحسب، بل أقامت صرحاً قوياً ورفعت جداراً سياسياً بوجه كل من تراوده نفسه العبور إلى العمق القومي العربي من البوابة الشرقية للوطن العربي.
لقد تناوبت قوى كثيرة من الداخل والخارج الإقليمي والدولي على ضرب هذا الصرح أو احتوائه، إن عبر عمليات التخريب الداخلي وإن عبر إجراءات الحصار والعقوبات والتحريض، والتي بلغت ذروتها بعد حصول التغيير في إيران، حيث لم يتأخر الوقت طويلاً، حتى بدأ النظام الجديد حربه المفتوحة ضد العراق التي استمرت ثماني سنوات، ولم تنته إلا عندما أدرك حكام طهران الجدد، أن السحر قد انقلب على الساحر، وأنه ما أرادوا الوصول إليه قد ارتد عليهم، وكانت الجملة الشهيرة للخميني، ان تجرع كأس السم أهون عليه من وقف الحرب مع العراق.
إن التحالف الصهيو-أميركي، الذي كان يمن النفس بسقوط العراق، وقع في خطأ التقدير وبالتالي فإنه لم ينتظر طويلاً، حتى بدأ رحلة الاستعداد للحرب لضرب كل النتائج التي أفرزتها سياقات الحرب مع إيران، وأيضاً لكل الإنجازات التي حققها العراق في ظل ثورته والتي وضعته في مصاف الدول التي تسير بخطى متسارعة نحو التقدم في كل مجالات الحياة.
لقد قاد التحالف الصهيو-أميركي، اصطفافاً دولياً وإقليمياً وبتغطية من النظام الرسمي العربي لضرب العراق بعدما عجزت القوى المعادية تنفيذ ذلك منفردة، فكان عدوان /1991، ومن ثم الحصار وبعده العدوان عام/2003، والذي انتهى بوقوع العراق تحت الاحتلال المتعدد الجنسيات، المكشوف منه والمتلطي وراءه. وللتذكير فقط فإنه لم تكد تمضي أيام على احتلال العراق، حتى وقف الرئيس الأميركي ليزف "بشارة النصر" ومطلقاً إشارة لانطلاق رسم خارطة المنطقة تحت عنوان الشرق الأوسط الجديد. لكن كما فاجأ العراق كل الذين ناصبوه العداء منذ رفرفت بيادق الثورة في سماء بغداد، فإنه فاجأ أيضاً الاحتلال بكل تحالفاته وكل إمكاناته، وهنا يطرح التساؤل والسؤال أيضاً؟
كيف استطاع العراق أن يصمد ويقاوم ومن ثم ينتصر في مواجهة تحالفات إقليمية ودولية لا يجمعها إلا العداء للعراق وللعروبة بمضمونها التقدمي التحرري؟
قد يبدو للبعض أن في الأمر شيء من الاستغراب، لكن من يعرف طبيعة الشعب في العراق وتجذر وعيه السياسي وعنفوانه الوطني لا يستغرب ذلك، ولكن بطبيعة الحال فإن هذا لا يكفي لوحده، لأن المهم في الصراع وكسبه يرتكز بشكل أساسي على إدارته.
لقد أدار العراق صراعه مع أعدائه على قاعدة الموقف الذي يحاكي الطموح الوطني والمزاج الشعبي ولهذا كان دائماً يغلب التناقض الرئيسي على التناقضات الأخرى ولهذا لم يتردد في إصدار بيان 11 آذار 1970، لحماية وحدة العراق وقطع دابر التدخل من بوابة "العامل االكردي"، وحيَّد فرنسا من قرار التأميم لحصر معركته مع الأخطبوط النفطي I..P.C. وخاض حرب الثماني سنوات وجبهته الداخلية في أعلى درجات تماسكها السياسي والشعبي وواجه الحصار والعدوان بوحدة موقف لم تؤثر فيه انزلاقات فردية ضعفت أمام هول الضغط والأهم من كل ذلك، فإنه عندما وقع تحت الاحتلال، انطلقت مقاومته، التي استطاعت دحر الاحتلال في ظل ظروف غير متكافئة وأوضاع شديدة التعقيد محيطة بوضع الفعل المقاوم.
إن هذه المقاومة التي انتصرت وهذا ليس سراً لأن قيادتها عرفت كيف تدير الصراع انطلاقاً من تحديدها لطبيعة المرحلة ولطبيعة هذا الصراع، وهي استندت بذلك إلى غنى تجربتها الذاتية وإلى التراث الإنساني في هذا المجال، وقد أثبتت التجارب أن الأوطان عندما تتعرض للاحتلال، فإن الحالة السياسية التي تفرض نفسها، هي حالة الصراع بين الاحتلال كمشروع سياسي هادف إلى تحقيق أهداف محددة، والمشروع النقيض الذي يقدم نفسه تحت عنوان المقاومة.
وإذا كان الاحتلال أي احتلال يهدف إلى مصادرة الإرادة الوطنية ونهب خيرات الأوطان وإيجاد بيئة تطيل أمد بقائه فإن المشروع النقيض، هو إسقاط الاحتلال كمشروع سياسي بكل مرتكزاته المادية وإفرازاته السياسية وان العنوان الذي تضع المقاومة نفسها تحته هو عنوان التحرر الوطني. وعليه فإن النضال ضد الاحتلال، هو نضال تحرري. وبما أن الاحتلال يستهدف الوطن بكل مقوماته، فإن معركة التحرير تتطلب حشد كل الإمكانات السياسية والشعبية التي يجمعها الهدف الأساسي لحماية هذه المقومات، وعندما تكون الحرب هي حرب وطنية من محتل أجنبي، يكون التناقض الأساسي محصوراً به، وأما سائر التناقضات تتراجع إلى درجة أدنى، وأنه ما من ثورة في التاريخ خاضت حرب تحرير وطنية وانتصرت إلا إذا كانت مشدودة إلى وحدة هدف مركزي معجل هو التحرير قبل البناء.
من هنا فإن المقاومة الوطنية العراقية، لم تنتصر بالاستناد إلى مشروعية نضالها وموقفها وحسب بل انتصرت لأنها قدمت نفسها فريقاً واحداً موحداً تحكمه استراتيجية عمل مرحلية ضد المحتل.
وما ينطبق على المقاومة الوطنية العراقية بكل أطيافها وقواها ينطبق على كل حالة مشابهة لأن العدو الذي يحتل وطناً يعمل دائماً لزرع الشقاق والفتنة بين أبناء الشعب المحتل وقواه السياسية، ويقاوم بشدة أي محاولة لوحدة سياسية ضد وجوده وعلى سبيل المثال لا الحصر موقف العدو الصهيوني من محاولات التوحد الفلسطيني. وإذا كان العدو أي عدو يسعى إلى خلق مناخات الانشطار والاحتراب ويغذيها، لإشغال الشعب الرازح تحت نير الاحتلال بصراعاته الجانبية وبالتالي إنهاكه وصرف الأنظار عن وجوده الاحتلالي، فإن الوقوع في هذا الفخ يشكل مقتلاً لقوى المشروع المواجه للاحتلال.
إن هذا الكلام نسوقه للإطلالة على الوضع في العراق حالياً حيث الصراع المحتدم تلفه بعض الالتباسات؟
من هذه الالتباسات، الاختلاف على توصيف الحالة السياسية في العراق، بمعنى هل العراق، بلد مستقل، متحرر بعد دحر الاحتلال الاميركي.؟
وهل الانسحاب الأميركي أعاد لهذا البلد حريته واستقلاله؟ أم أنه ما يزال تحت الاحتلال وإن تحت يافطات أخرى؟ كما الالتباس حول العلاقة بين الأطراف التي تقاوم الاحتلال؟هذا أولاً.
وثانياً، هو الالتباس حول الدور الإيراني هل هو دور تفصيلي أم أساسي؟ وأي توصيف ينطبق عليه؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات تجيب عليها الوقائع.
من هذه الوقائع، ان إنهاء الاحتلال لا يقتصر عادة على وجوده المادي المباشر، بل يتطلب إنهاءه، إنهاء كل إفرازاته.
هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فإن الانسحاب الأميركي، وان طال آلته العسكرية المباشرة، إلا أن أجهزته الأمنية والاستخباراتية ما تزال تعمل لتدعيم وحماية ما يسمى بالعملية السياسية والتي يناط بها تشريع نتائج الاحتلال وعليه فإنه لا يمكن القول أن العراق قد تحرر كلياً من الاحتلال وإفرازاته.
ومن الوقائع أيضاً ما يتناول الدور الإيراني، وأنه ليس سراً، ان التعاون الأميركي-الإيراني قائم منذ اللحظة التي اتخذ فيها قرار الحرب ضد العراق. والنظام الإيراني لا يخفي هذه الحقيقة والمسؤولين منه يجزمون بأنه لولا إيران لما استطاعت أميركا احتلال العراق. وقد ثبت من خلال الوقائع أيضاً، ان العلاقات الأميركية –الإيرانية تقاطعت حول العراق بما يؤدي إلى تحقيق نتائج العدوان، لجهة إسقاط النظام الوطني وتقويض مقومات الدولة ومؤسساتها الارتكازية وخاصة مؤسسة الجيش، وتطييف الحياة السياسية ووضع دستور يوفر تغطية للتقسيم تحت عنوان الفدرالية، ونهب ثروة العراق النفطية، وما يبقى منها يوزع على المحاسيب
وأنه بعد الانسحاب الأميركي، تقدم النظام الإيراني للإشراف على إدارة الوضع السياسي والأمني والاقتصادي، وحل سليماني محل بريمر، وهذا ما جعل من إيران تمارس وصاية شاملة على العراق وهي بما تنطوي عليه من أهداف إنما تجسد احتلالاً مباشراً، يصح فيه وصف الاحتلال من الباطن.
وعليه، فإن الدور الإيراني الذي يدرج تحت عنوان الاحتلال، لا يمكن اعتباره إيجابياً لمصلحة العراق، لأن الأجندة السياسية لدولة الاحتلال تناقض الأجندة السياسية لمصالح البلد المحتل.
وكما كل احتلال يفرز نقيضه وهي المقاومة، فإن الاحتلال الإيراني لا بد وأن يفرز مقاومة له، وطالما أن هذا الاحتلال الايراني، شكل استمرارًا بالنتائج للاحتلال الاميركي، فإن القوى التي كانت معنية بمواجهة الاحتلال الأميركي، معنية أيضاً بمواجهة المحتل الإيراني. وان الانتصار على هذا الاحتلال لا يكون بوصفه والتأشير على مخاطره وحسب، بل بمواجهته وعبر حركة منظمة تنطلق في مواجهتها للمحتل الجديد – القديم باعتبارها حركة تحرر وطني. وحركة التحرر الوطني، تنتصر بقدر ما تكون واضحة في تحديد أهدافها السياسية، وقادرة على إدارة الصراع بتغليب التناقض الأساسي مع العدو المحتل بكل تحالفاته، على التناقضات التي تنطوي عليها البرامج السياسية الخاصة بأطراف حركة التحرر.
لقد قدمت المقاومة الوطنية العراقية نموذجاً متقدماً في أداء عملها الجبهوي ضد المحتل الأميركي رغم أن أطرافها ينتمون بالفكر والأيديولوجيا والمناهج السياسية إلى مدارس مختلفة، بعضها علماني، وبعضها ديني، كما بعضها محافظ وآخر تقدمي، لكنها اتفقت على تقديم المشترك وتأخير المختلف عليه، ولهذا استطاعت أن تنتصر في معركة تحرير العراق من الاحتلال الأميركي.
وعلى قاعد القياس فإن الأمر نفسه يجب أن يحكم سلوكية القوى التي تنخرط في مواجهة المحتل الإيراني وأتباعه، فهذه القوى التي تضم اصطفافاً واسعاً من القوى ذات المنطلقات الفكرية والسياسية المختلفة حول طبيعة النظام السياسي والعلائق المجتمعية، هدفها المركزي دحر الاحتلال الإيراني. وإذا كان الاحتلال الأميركي قد سعى إلى شق الصفوف، وفشل، فإن محاولات النظام الإيراني ليست قليلة ويجب أن تفشل أيضاً، والمدخل لإفشالها هو إبقاء البنادق موجهة إليه، لأن المواجهة معه تتم تحت عنوان التحرر الوطني، وعندما يتحرر الوطن من الأجنبي، وتبدأ عملية إعادة البناء السياسي سيبقى لكل حادث حديث. وإذا ما حصلت ممارسات تسيء للثورة وبيئتها الحاضنة،فإن هدف هذه الممارسات تندرج تحت عنوان الاختراقات المعادية التي تنفذها قوى مشبوهة فكراً وتنظيماً وممارسة وهي تهدف الى التشويش على الثورة وإرباكها وبالتالي يجب مواجهتها بالتخصيص على مستوى الموقف أولاً،والا على المستوى العملاني.
إن العراق الذي عاش خمسة وثلاثون عاماً في ظل مفاعيل ثورة التغيير، هو اليوم ومنذ وقع تحت الاحتلال يعيش في ظل مفاعيل ثورة التوحيد والتحرير التي انطلقت مقاومة ضد المحتل الأميركي وتحولت ثورة ضد المحتل الإيراني ولا أولوية تتقدم على فعل التحرير. ومن يتحمل عبء المسؤولية هو الأكثر حرصاً على جعل فعل التحرير يصل إلى مداه النهائي بأقل الخسائر الداخلية الممكنة وبأكثرها على العدو المحتل.
إنها المسؤولية التاريخية التي لا يحملها إلا قادة تاريخيون يقدمون مصالح العام على الخاص، ومصالح الوطن على ما سواها من تفاصيل سياسية.