افتتاحية طليعة لبنان الواحد لشهر حزيران 2014
ثورة العراق بعد التاسع من حزيران ليس كما قبله
لو أراد المرء أن يتوقف عند محطات مفصلية بما يتعلق بالعراق، لاحتاج الأمر جردة طويلة، لكن اختصاراً نتوقف عند الثلاث الأخيرة منها:
الأولى: خروج المحتل من العراق، تحت عنوان الانسحاب بالوصف الاميركي، والاندحار بوصف المقاومة العراقية.
الثانية: انطلاق الحراك الشعبي، الذي وصف بالفوغائية والفقاقيع من قبل سلطة إفرازات الاحتلال، وبالانتفاضة الشعبية من قبل قوى المشروع الوطني المستندة إلى فعل التحرير، والمنطلقة إلى فعل التوحيد.
الثالثة: انطلاق الثورة الشعبية، التي اتخذت شكل الرد الموضعي بداية على عنف السلطة وقمعها وفجورها السياسي، وتحولت إلى ثورة شاملة في لحظة الفاصل الأمني المحدد بالتاسع من حزيران.
لقد انطلقت الثورة الشعبية، بعدما توفرت لها كل الظروف الموضوعية والذاتية. ففي ظروفها الموضوعية، عانى العراق عبء الاحتلال الأميركي بكل تحالفاته وتقاطعاته، وعبء التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية، وخاصة الإيراني منه، الذي تظلل طيلة تسع سنوات بالاحتلال الأميركي، وقفز إلى الواجهة بعد هزيمة الاحتلال، يضاف إلى ذلك تحول العراق إلى دولة فاشلة أدارت شؤونها شلل سياسية، تحكمت بها عقلية ميليشاوية، وتولت إدارة نهب الثروة الوطنية وتوزعيها على الأزلام والمحاسيب وخدمة لأغراض القوى المهينة سياسياً وأمنياً. ومن يقف على حجم الاستياء الشعبي الذي كان يعم العراق، من سوء الإدارة وفسادها، وجوع المتسلطين المزمن للسلطة والمال والتصرف على أساس أن العراق هو مزرعة،لا يستغرب أن تكون حالة الرفض هي حالة وطنية شاملة وأن عبر عنها بأشكال مختلفة. وإذا ما أضيفت هذه العوامل إلى عامل الانتهاك للحرمات الاجتماعية والانتهاك للسيادة الوطنية، واستحضار النظرة الشعوبية الاستعلائية على عروبة العراقيين، وهم الذين يعتزون بعروبتهم وشموخهم الوطني لتبين أن كل الظروف الموضوعية كانت ناضجة لاستقبال المتغير السياسي الذي يسقط الحالة الشاذة ويعيد تصحيح وتصويب الأمور بإعادة تركيز العراق على قاعدته الهرمية عبر ركائزها الثلاث، وحدته وعروبته والنظام السياسي الديمقراطي التعددي الحاضن لكل أبنائه على قاعدة المساواة في المواطنة.
هذا في العامل الموضوعي، أما في العامل الذاتي، فإن سياقات المواجهة مع المحتل الأميركي أولاً، ومع إفرازاته ومن ورثه ثانياً، أفرز قيادة سياسية، ضمت في صفوفها طيفاً واسعاً من القوى السياسية والشعبية، وكان تركيبها البنيوي يجسد كل الطيف السياسي والشعبي الوطني في العراق، كما أن برنامجها السياسي، لم يخاطب فئة دون أخرى، ولم يدع إلى اقتصار مفاعليه على منطقة دون أخرى، بل كان ذاك البرنامج يحاكي الطموح الشعبي العراقي في سعيه لاستعادة حريته الوطنية، وحرياته السياسية والاجتماعية بعيداً من منطق المحاصصة الطائفية والمناطقية والأثنية.
هذا التماسك القوي لبنية الأداة التنظيمية القيادية، جعلها تدير صراعها مع المحتل الأميركي وأعوانه بكفاءة عالية، وهي كانت دائماً تقدم التناقض الرئيسي على الثانوي، ولم تدخل في صراعات جانبية أو فئوية، بل جعلت كل جهودها منصبة على مواجهة الأخطار المهددة للوطنية العراقية سواء كان مصدر هذه الأخطار التدخل الخارجي بأشكاله المختلفة أو القوى التي أفرزها الاحتلال ومكنها من إدارة الشأن العراقي على كافة الصعد والمستويات.
من هنا، فإن الذي حصل في التاسع من حزيران، وأن فاجأ كثيرين، إلا أنه لم يفاجأ الذين كانوا على بينة من حقيقة الوضع المحتقن وتفاعلاته منذ أختار المالكي أسلوب الحل العسكري والأمني للتعامل مع الحراك الشعبي.
أن الذي حصل في ذلك التاريخ، كان تطوراً نوعياً في مسار المواجهة المفتوحة بين مشروعين: المشروع الوطني الذي حملت وتحمل لواءه قوى المقاومة والتوحيد الوطني والتغيير والديموقراطية والمستندة بشكل أساسي إلى حاضنها الشعبية. وقوى الهيمنة والتسلط والفساد والإفساد المحمية بمظلة دعم خارجي مرتكزة بشكل أساسي إلى تفاهم أميركي إيراني، وتتغذى بالمرضعات المذهبية والطائفية والأثنية.
هذا المشروعان المتصادمان لا تستقيم التسوية بينهما، لأنهما محكومين بالتناقض الأساسي الموضوعي بينهما. وإذا كانت القوى التي تدير مشروع الفساد والإفساد والارتهان للخارج الدولي والإقليمي، تحاول أن تصور الصراع الدائر في العراق اليوم، بأنه صراع مع ما تسميه القوى الإرهابية، فهذا الادعاء لا يستقيم والحقائق الموضوعية التي تفرض نفسها في معطى الواقع العراقي.
إن رفع يافطة الإرهاب من قبل قوى المشروع التي أفرزها الاحتلال، الهدف منه، استثارة غرائزية مذهبية وطائفية وتفريغ الصراع من مضمونه الوطني والديموقراطي، واستثارة تدخل خارجي وخاصة إيراني وأميركي لإعادة تعويم نتائج الاحتلال عبر إعادة تركيب سلطة على قاعدة المحاصصة الطائفية المناطقية تحت عوان حكومة الوحدة الوطنية وكأن الخلاف على حصص الطوائف في السلطة.
إن الإبراز الإعلامي والتضخيم السياسي لحجم الدور الذي تضطلع به القوى المصنفة إرهابية في الحدث العراقي، هدفه تشويه المضمون الوطني للصراع، وهذا ما أدركته قوى المشروع الوطني التي كما طرحت برنامجاً متكاملاً لاستراتيجية التحرير، عادت واستحضرت العناوين الأساسية لهذا البرنامج، كمشروع سياسي لإعادة توحيد العراق وتخليصه من الحالة التي يمر بها،
وهذا البرنامج محدداته واضحة، وهو يحاكي الحال الوطنية العراقية الشاملة، وتتلخص بنوده بالآتي:
1- تشكيل حكومة وطنية مؤقتة تتكون من المستقلين من ذوي الكفاءات والخبرة المشهودة لفترة انتقالية لا تتجاوز سنة واحدة.
2- فور تشكيل هذه الحكومة، تصدر عفواً عاماً، وتحضر لبدء حوار وطني شامل يقوم على أساس الالتزام بحقوق العراق ومصالحه ووحدة أراضيه، مع ضمان حقوق المواطنين وعائلات الضحايا، وإطلاق يد القضاء في محاكمات عادلة لمن ارتكب جرائم بحق أبناء الشعب في العراق.
3- تتولى هذه الحكومة كافة الصلاحيات التشريعية والتنفيذية والإشراف على الأجهزة العسكرية والأمنية خلال الفترة الانتقالية، وهذا يتطلب:
أ- الغاء العملية السياسية التي أفرزها الاحتلال.
ب- اعتبار الدستور الذي سن في ظل الاحتلال وكل القوانين والقرارات الصادرة باطلة وكأنها لم تكن خاصة قانون المساءلة والعدالة "واجتثاث البعث" وحل الجيش العراقي وقانون الارهاب.
ج- إطلاق الأسرى والمعتقلين والمحتجزين منذ وقع العراق تحت الاحتلال وحتى تاريخه.
4- تشكيل مجلس وطني مؤقت يضم في صفوفه جميع القوى الوطنية العراقية، تكون من أولى مهماته وضع مشروع دستور جديد يلبي طموحات الشعب وأهداف الثورة لأجل بناء عراق موحد قائم على الديموقراطية والتعددية السياسية واحترام حقوق الإنسان، وعلى أن يطرح على الاستفتاء الشعبي العام خلال الفترة الانتقالية ليصار بالاستناد إليه إعادة تكوين السلطة بمؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية.
5- البدء بإعادة بناء القوات المسلحة العراقية وكل الأجهزة الأمنية وفق قوانينها وأنظمتها وتقاليد عملها الوطنية الراسخة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة.
إن هذه المبادئ الخمس يتم إقرارها من خلال مؤتمر وطني عراقي يعقد تحت مظلة عربية ودولية، لإرساء أسس نظام سياسي تعددي، لا اقصاء فيه ولا اجتثاث ولا استبداد وتسلط أو تفرد، ويقوم على أساس تداول السلطة.
إن الثورة العراقية المنطلقة تحت عناوين المسألة الوطنية، إذ تطرح هذا البرنامج ببنوده المحددة فلأنها ثورة شعبية، لم تنطلق لتعديل حصص الطوائف في السلطة، ولم تكن محفزاتها مطالب وحقوق طائفة أو مذهب، بل انطلقت لتسقط سلوك المحاصصة الطائفية التي أفرزها الاحتلال، ولتلبي الحاجة الوطنية والمطالب الشعبية والهم العراقي الواحد، في الجنوب والغرب والشمال والوسط والعاصمة بغداد.
فهذه الثورة العراقية المنطلقة لإقامة النظام الديمقراطي التعددي، هي النقيض الموضوعي للإرهاب الذي يتغذى من الفكر المذهبي والطائفي أياً كانت قواه ومصادر إرضاعه، وبالتالي فإن الصاق تهمة الإرهاب بها، هو افتراء واستحضار للأسلوب الذي تتعامل فيه قوى الاستعمار والهيمنة مع الثورات الشعبية. وإذا كانت قد برزت بعض الظواهر التي تظلل الحراك الثوري باليافطات الدينية والمذهبية، فهذه ما هي الا إفراز رديف للاحتلال الذي أفرز وغذى القوى الطائفية والمذهبية التي يبرر وجودها بعضها البعض الآخر، وهي مصدر الخطر والتهديد الفعليين للمشروع الوطني بأبعاده التحريرية والتوحيدية ومضامينه الديموقراطية.
إن الثورة الشعبية في العراقـ أثبتت أنها تملك من النضج السياسي والخبرة العملية، ما يمكنها من وضع حدٍ لكل التشويهات التي يعمل لالصاقها بها، وأنها بما تمتلك من مشروعية سياسية ونضالية، قادرة أن تكون المعبر الأصيل عن طموح شعب العراق وتوقه إلى الحرية وإعادة صياغة أوضاعه السياسية بما يضمن استقلاله السياسي بعيداً عن كل أشكال التدخل في شؤون الداخلية، وبما يمكن من تحديد خياراته الوطنية والقومية بمعزل عن أشكال الهيمنة والوصاية والاملاء وكل أشكال الانشطارات العمودية في بنى المجتمع العراقي.
إن الثورة في العراق انطلقت تحت عناوين وطنية واضحة، والدخول على خط مسارها عبر يافطات وسلوكيات مذهبية هو للتشويش عليها وإرباك حركتها، ولذلك فهي معنية بالتصدي لقوى التشويش والإرباك في سياق مواجهتها للحالة السياسية التي أفرزها الاحتلال الأميركي، وهي اليوم ضمن دائرة الاحتواء الإيراني.
هذه الثورة التي دخلت في مواجهة ذات بعد استراتيجي مع المحتل الأميركي، لم تشخصن تلك المواجهة، بل وضعتها في سياق سياسي تحكمه استراتيجية التحرير مقابل استراتيجية الاحتلال، وهي في تعاملها مع إفرازات الاحتلال، فإنها لن تشخصن صراعها مع رموز تتولى إدارة الشأن السياسي والأمني لأنها ترى في هؤلاء مجرد دمى وأدوات تنفيذية، وعليه فإن المالكي على سبيل المثال لا الحصر ليس مستهدفاً لشخصه بل باعتباره من ضمن حالة سياسية ارتضت أن تكون واجهة للاحتلال. وعليه فإن الهدف الأساسي ليس إسقاطه كموقع وحسب، بل إسقاط العملية السياسية التي أفرزها الاحتلال. وعندما تسقط هذه العملية، تسقط كل رموزها السلطوية في السياسية والأمن والاقتصاد.
وإذا كان المالكي قد بادر بفتح النار على الحكومة الوطنية أو ما سماها حكومة إنقاذ، فمن قال أن للمالكي مكان في حكومة الوحدة الوطنية. لأن على المالكي ومن يقف معه ووراءه أن يعوا جيداً بأن حكومة الوحدة الوطنية التي تدعو إليها قوة الثورة الشعبية، ليست حكومة تجميع قوى المحاصصة الطائفية التي تدعو إليها أميركا بهدف احتواء الوضع المتفجر، بل هي حكومة قوى المشروع الوطني، الذي لأجله انطلقت الثورة ولأجله تستمر.
إن الثورة في العراق، ما انطلقت لأجل تجميل ما يسمى بالعملية السياسية، بل انطلقت لإسقاط هذه العملية برمتها، وإطلاق عملية سياسية جديدة بالاستناد إلى الوقائع التي أفرزتها معطيات مقاومة الاحتلال الأميركي ودحره، ومعطيات البدايات الفعلية لإسقاط إفرازات الاحتلال، وهذه الثورة ستحقق أهدافها، لأنها تستمد زخمها من معطى فعل التحرير العظيم، وهي ستسقط نتائج الاحتلال كما أسقطت الاحتلال نفسه، والكلام هذا لا يندرج ضمن الكلام التعبوي، لأن قريب الأيام سيثبت ذلك، وكما كان بعد تاريخ 31/ك1 2011 ليس كما قبله، فإن بعد التاسع من حزيران 2014 ليس كما قبله