يعقوب سيادي
ها قد انقضت سنوات ثلاث، بل وأكثر، على بدء الحراك الشعبي في (14 فبراير/ شباط 2011)، الذي استخدم لإسكات صوته سياسات وإجراءات، وسُخّرت لذلك موارد بشرية ومالية وعتاد. فمحلياً استنفرت لها كامل طاقات الأجهزة الرسمية، ومؤسسات الصحافة والتلفزيون الحكومية وشبه الحكومية، في داخل البحرين وخارجها، وانحدر مستوى ما تقدمه الدولة من خدمات للمواطنين، إلى الفرز السياسي ما بين مواليها ومعارضيها، ولجأت إلى ما يفرق المواطنين على معياره، في أرزاقهم وضرورات حياتهم، وأجْرَت إجراءات الفصل من الأعمال وفرز إجراءات التوظيف، في القطاع الحكومي وشبه الحكومي، والقطاع الخاص المحسوب عليها في التبعية.
بل وزادت عليه بالضغط على المجالس البلدية والتشريعية، وانحدرت بإجراءاتها إلى المدارس والمعاهد والجامعات والمستشفيات لتحذو حذو وزاراتها وشركاتها، لفصل ومضايقة المختلفين مع الحكومة حول تلك السياسات المخالفة للدستور وللعهود والمواثيق التي وقعتها في مجال حقوق الإنسان.
ولم تجد في جميع حلولها الأمنية المحلية، ما يبسط لها الوداعة الجبرية من الشعب، من حيث حجم الحراك الشعبي وإقداماته، في رفع المطالب المتقدمة التي لم تألف مثلها السلطات، في جمعها لاستحقاقات جميع المواطنين دون تفريق، فراعها أمر ذلك، لذا فُتح علينا باب التدخلات الإقليمية الخليجية والعربية، ريثما تسترد الأنفاس، لتنشيط خلايا التقرير الشهير النائمة، فَمِمّا تم الإعلان عنه رسمياً، أن هناك تدخلات إيرانية مباشرة وغير مباشرة، لتستنهض الحمية الخليجية والعربية والمذهبية الدينية، لصد أي تدخل خارجي محتمل من طرف أعلنته السلطات. كما بانت أيضاً الحدود المفتوحة لأفراد الجهات غير المحلية لإجراءات التصدي للحراك الشعبي، وكذلك اتضح التواجد الأمني العربي وسواه، بما يُعَدُّ استنجاداً بجهات غير ذات صلة بالتعامل مع الحراكات الشعبية داخل الوطن.
فاجتمعت كل هذه الجهات المحلية والإقليمية والعربية، لتواجه حراكاً شعبياً في الشوارع والقُرى، وتتشارك في إجراءات الصد والمنع من التظاهر والتعبير عن المطالب، وكذلك في إجراءات الملاحقات والقبض، عبر مداهمات البيوت ومقار العمل وتفتيشها وإلقاء القبض على قاطنيها، كل ذلك من دون إبراز الأوامر القضائية للتفتيش والقبض، فبات المواطن البحريني لا يعرف هوية أولئك الذين يتربصون له بالمرصاد في الشوارع والأزقة، وخصوصاً الملثمين منهم وباللباس المدني، فكثرت التجاوزات الإجرائية والقانونية والدستورية، مع حالة التعاضد مع الجهات الرقابية سواء التشريعية أو الدستورية، بما أوصل الحال إلى طائلة القتل للمنع من التظاهر.
وترافدت هذه التجاوزات الإجرائية، والإفلات من العقاب، وسياسات التمييز وعدم المساواة بين المواطنين، وتفشي الفساد وهدر ثروات الوطن لصالح المتنفذين، وبما يخدم مصالحهم، جراء شراء ذمم نفر من المتمصلحين، في جملة من الحقول الثقافية والقانونية والصحافية والإعلامية، ومؤسسات العمل المدني، وشركات العلاقات العامة الأجنبية، بما عزّز من سياسة الفرز الطائفي، علاوةً على الفرز السياسي، فهدمت المساجد الشيعية وتمت الإساءة إلى أفراد هذه الطائفة الإسلامية، وشجّعت منابرها الموالية الطائفية، الدينية والسياسية والصحافية والتلفزيونية، لممارسة ذاك الفرز الطائفي، وأطلقت لهم العنان لسب وشتم الطائفة ورموزها، والتعدّي الإجرامي على مقدساتها وأملاك أفرادها، ورفدتهم لذلك ببعض منتسبيها.
وما عمق من جروح الوطن، أن الأزمة القائمة اليوم، جاءت على أنقاض وعود العام 1971، عام الإستقلال، ببناء مؤسسات الدولة المدنية الحديثة، القائمة على النظام الدستوري الديمقراطي، وعلى رغم عقدية الدستور المقر من خلال مجلس دستوري تمثل في المجلس التأسيسي المنتخب، الذي تلاه انتخاب المجلس الوطني، إلا أن الحال لم يدم إلا عامين، لينتكس الوطن بالتخلي عن ذلك الدستور، ويسود قانون أمن الدولة سيء الصيت، الذي دام 27 عاماً.
كما أن الأزمة، جاءت أيضاً في أعقاب الوعد الرسمي الذي تطلع إليه الشعب بأمل الحاضر الجديد وأحلام المستقبل، فكان التسامح والدعم الشعبي بناءً على وعد الميثاق العام 2001 قبيل التصويت عليه، إلا أن الحال عادت بالوطن العام 2010، إلى أعوام قانون أمن الدولة، عبر تشويه الهوية الوطنية من خلال التجنيس الطائفي لأغراض سياسية، وعبر التفرقة الطائفية والاضطهاد الديني لطائفة، والفساد الإداري الذي وثقته تقارير ديوان الرقابة المالية، وسرقات المال العام وضياع أراضي الدولة، وضعف الحالة المادية للمواطن قبالة الأسعار، وتدهور الخدمات وخصوصاً الإسكانية والصحية والتعليمية، واتضاح سوءات التجنيس، بما وَلَّد الضغوط التي فجّرت الحراك الشعبي، بما كان عليه في 14 فبراير 2011. وبدلاً من تحكيم أصل وثيقة المرحلة وهي الميثاق، عادت حليمة لعادتها القديمة، بالعودة إلى انتهاج المسعى الأمني العنيف والمفرط القوة، بما تجاوز الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين، تسويقاً لإدعاء أن الحراك مُدارٌ ومدعومٌ من إيران، من أجل احتلال البحرين، وذلك إخفاءً لحقيقة الاخفاق في الوصول إلى دولة مدنية حديثة، ذات نظام حكم بدستور، يستلزم إخضاع جميع السلطات له، وسلطة تشريعية ورقابية معبرة عن إرادة الشعب الحقة، عبر الصوت الانتخابي المتساوي للمواطنين، وقضاء مستقل ونزيه ومنظومة قوانين محلية تواكب العصر والمواثيق والعهود الدولية التي صادقت عليها البحرين.