بقلم : اسماعيل ابو البندورة
السلطة العربية المتآكلة المتعبة المثقلة بالامراض والهموم والقلق التي نراقب رموز تهافتها ورثاثتهم في أكثر من قطر عربي بأطوارهم الجديدة من المتعوس الى خائب الرجاء، تكاد تعبر عن واقع الحال المائل الفوضوي الذي دخلت فيه الأمة، وكأننا أصبحنا أحيانا ازاء ديناصورات بشرية تريد أن تبقى في الحكم الى الأبد، دون أن يطالها التعب أو ينالها الزمن أو التبديل أو الانقراض، ولا تريد لهذه الأوطان أن تعبر عن ارادتها وتفك قيودها، ولا للارض أن تخرج أثقالها والشعوب أن تتحرر من سلطاتها الآفلة، وغرائبها السياسية، ورمزياتها البائدة.
نكاد أحيانا نقول أين المفر والارض كما يبدو قد ضاقت علينا بما رحبت، وتوزعنا فرقا شتى في أحضان الفراغ ؟ وقد وضعتنا هذه السلطة العربية المافياوية في جحيم وضلال مبين منذ آماد طويلة، وجعلتنا محبوسين في أنانيتها وضيق أفقها وانحطاطها وترّهاتها وغرائبها التي أصبحت حديث العالم . وهي قد عزمت على أن لا ترتاح وأن لا تريح، كما أن وعيها المسدود المغلق أصبح يطبق على عقلها بالهذاءات والتهيؤات والهواجس والكوابيس، فتكاد لا ترى الا ذاتها وعالمها الموهوم المزعوم المزدرى، ولا ترى القيامة قادمة الا في الأحلام ، ولذا فهي ترتاح ولو على 'كراسي متحركة' أو في حافلات الاسعاف والانعاش، وتغتبط بنسب التصويت وحب الشعب لها، وتنام قريرة العين لاعتيادها هذا الكابوس السلطوي الوسواسي الذي لا يجعلها تسأل الى أين نسير ؟ أي مدارات عاصفة سندخل في هذا المشي السلطوي المقلقل والشفاه الراجفة، والعيون الزائغة، والايدي المغلولة، والخطى الواجفة ؟
نذهب الى كل الأدبيات السياسية حول السلطة، والسلطة الغشوم، والدكتاتوريات بأنواعها، ونفتش كل نظريات الحكم، فلا نرى مثلما هو دارج وقائم في ديارنا من الاستمرارية السلطوية المفرغة من الشرعية والمعنى السياسي، والاستئثار بالسلطة الى الأبد ، والعناد والتعلق بمقاليد الحكم حتى لو زاغت العيون واقتربت الساعة والأجل، ووهنت الأنفاس وقصرت الخطى.
ألا يشكل الأمر استثناءً واستشكالا عربيا لابد من التفكير به في كل لحظة وأوان، ونحن كنا ولا نزال على منصة الفرجة نرى السلطة العربية العليلة وهي تتدحرج، ونعاني الألم من وطأة كابوس الحكم العربي وأثقاله، ونرى الأمم تتهافت علينا من كل حدب وصوب، بينما نحن لا نجد في الميدان الا ' حديدوان ' ذاته الذي انبثق يوما وبقي في الأفق شمسا مطفأة ومحرقة لا تغيب ؟
الاوروبيون والأفريقانيون يتداولون السلطة، ويتنازلون طوعا عنها، ويرفضون ديناصورية ودوامية الحكم الأحادي الواحدي وخلوده، وكلنا يتذكر ( نيريري، وسنجور، وعبد الناصر، وسوار الذهب وغيرهم )، وهناك قادة ومسؤولون ينتحرون ويعتذرون لشعبهم عن الأخطاء التي يقعون فيها، ويكفّرون عن ذنوبهم بالانسحاب الى بيوتهم . وكأن قدرنا نحن بأن نبقى في طامتنا وغفلتنا المزمنة عن تجارب الحكم في العالم ومسارات الأمم، وفي ظلال جحيم المفدّى حتى لو شاخ وتعثرت خطاه وزاغ بصره وبصيرته .
أي اشكالية سلطوية خرافية دخلناها طوعا وقسرا ؟ دخلناها طوعا بالتواطؤ السلبي والايجابي معا، وأدخلونا فيها قسرا بالسوط والقناوي والفلقات ؟ وأي مركب وعر وضعونا به فلا نقدم ولانحجم، بل نبقى نراوح في المكان ؟ وأي ضلالة نعيش ونحن قد أصبحنا على حواف التاريخ اذا لم نكن خارجه ؟
انها قارعتنا .. وما أدراك ما القارعة ؟ عندما نصبح في هذا المدار البغيض .. سلطات تخنق أنفاسنا بالقوة الغاشمة، وسلطات ارتضيناها لأنفسنا بالسكوت والقعود والتردد والخنوع . ولا بد لهذا الأمر من تبصر وتفكر، ولا بد من خلاص، فهذا الأمر يؤرق ويؤخر ويدمر، اذ لابد من الوطن والمواطنة، ولا بد من الدولة بدل السلطة العارية، ولابد من التغيير بدل التبرير،ولابد أن نتنبّه ونستفيق.. ' فقد طغى الهول حتى غاصت الركب' .. وسلامتكم !!