د . علي محمد فخرو
لا ينجح أي حوار في أي مكان مالم تسبقه خطوات تهيئ الظروف والمحاورين من أجل إنجاحه . فالحوار مثلاً بين أصحاب المصالح الأنانية والانتماءات الزبونية لهذه الجهة أو تلك لا يمكن أن ينتج عنه أكثر من ثرثرة المجاملات .
طرح هذه المقدمة الحذرة مرتبط بما يجري من جنون في عالم اليوم الذي نعيش . فهناك جنون التعامل مع البيئة التي يتفاقم سنوياً تدهورها بسبب الكثير من نشاطات الإنسان الخاطئة الملوثة للبيئة، التي إن استمرت في شكلها وعنفوانها الحالي فإن الوجود الإنساني على هذه الأرض، ومعه وجود الكائنات الأخرى، سيصل إلى نهايته في المستقبل المنظور .
وهناك جنون القوة والعظمة، وما يتبعه من استعمار واحتلال وقمع للآخر ونهب لثرواته، الذي مارسته بعض الدول الاستعمارية الأوروبية في الماضي باسم تمدين الآخر، وتمارسه أمريكا حالياً باسم نشر الديمقراطية، وستمارسه غداً دول كبيرة قوية من مثل روسيا والصين والهند والبرازيل وغيرها باسم مبررات ثقافية أو دينية حسب الظروف والحاجة .
وهناك جنون النظام الرأسمالي العولمي الذي أدخل كل مجتمعات العالم في دوامة الاستقطاب الحاد الظالم، بحيث تزداد الأقلية الغنية غنى وتزداد الأكثرية الفقيرة المسحوقة فقراً، شيئاً فشيئاً يتضاءل من وجود الطبقة المتوسطة التي على أكتافها قامت الحضارات عبر تاريخ الإنسانية الطويل .
وهناك جنون الثقافة العولمية المنتشرة في العالم كانتشار النار في الهشيم، التي تقوم على الإغراء المجنون للبشرية كلها بممارسة الاستهلاك النهم لكل شيء مادياً ومعنوياً والارتهان العبودي لمديونية طوال الحياة من أجل دفع ثمن ذلك الاستهلاك العبثي المتصاعد إلى ما لا نهاية .
وهناك جنون صراعات الأديان والمذاهب والأعراق والقبائل التي ما أن تهدأ في مكان حتى تشتعل في أماكن أخرى، تؤججها أفكار دينية وإيديولوجية متزمتة مريضة ويقودها رجال سياسة ودين وعساكر وصناعة أسلحة من خلال إعلام سطحي انتهازي بلا روح وبلا قيم . وفي وطننا العربي يتمثل هذا الصراع المجنون في مرض الانقسام الطائفي السني الشيعي المأساوي العبثي المهدد لمستقبل الإسلام ووجوده، وفي الصعود المذهل لمعتوهي الجهاد التكفيري الذي يلغُ أصحابه في دماء الأطفال والنساء والشيوخ ويحرقون الأخضر واليابس، كل ذلك باسم دين الحق والقسط والميزان والرحمة والغفران والتسامح .
هناك وهناك من هلوسة الجنون وممارسة الجنون ما يملأ المجلدات، في أغلب عالم اليوم وفي أكثر أرض العرب المستباحة المغلوبة على أمرها .
هذا الجنون له مفكروه وكتّابه وإعلاميوه وممولوه وحماته، ولهم صوت ونشاط يملأ جنبات الأرض . ولأنهم أصحاب القوة والمكانة والوجاهة فإنهم يكونون أغلبية من يدعون ليتصدروا موائد حوارات الثقافات والأديان والمذاهب والحضارات .
هنا نعاود الطرح الحذر للمقدمة بشكل آخر: هل أن جمع من يخلقون ويفعلون وينشرون كل تلك الأنواع من الجنون مع القلة التي تحاول أن تنأى بنفسها عن الدخول في حلقات ذلك الجنون، هل جمعهم حول طاولات الحوارات المختلفة سيؤدي إلى أكثر من حوار الطرشان الذي لن يكون أكثر من ثرثرة مجاملات وتمنيات وأحلام طفولية وانتهازية ما وراء الأقنعة؟
ما الدليل على ما نقول؟ الدليل هو أن وجود عشرات المراكز والمنابر والمؤسسات في العالم كله، التي تدعو للحوار، لم ينجح عبر السنين، ولا قيد أنملة، في منع أو تخفيف أو إيقاف عشرات الصراعات سواء في الداخل أو الخارج، وبقيت أغلبية توصيات مؤتمرات الحوارات حبراً على ورق ومادة للمباهاة .
ذلك أن ما تسميه تلك المراكز حواراً بين الثقافات والحضارات والأديان أو غيرها لم يتعد أن يكون في أغلب الأحيان عبارة عن شعارات سياسية أو صور للعلاقات العامة أو أمنيات لأناس يجهلون الأسباب المعقدة لمشكلات وعثرات وجنون العصر الذي نعيش، وبالتالي يعتقدون أن الحلول هي في توجيه دعوة وجلوس حول طاولة .
دعنا نكون صريحين: لن تنجح الحوارات إلا بعد مواجهة ومعالجة ودحر الأفكار والممارسات المجنونة التي تملأ أرض وسماء وبحار هذا الكوكب . بعد أن تدحر المصالح التي وراء ذلك الجنون ويدحر أصحابها والمستفيدون منها، سيكون مفيداً عند ذاك الدخول في حوارات بين عقلاء في عالم عاقل من أجل التناغم والتعاضد بين مكونات البشرية .
ما تحتاجه البشرية والمجتمعات الآن هو الفعل الجماهيري الواعي المستمر المتراكم المتصاعد لإزالة أسباب ولإيقاف فواجع وجرائم كل أنواع الجنون في عالمنا المعاصر وذلك تمهيداً لانتقاله إلى عالم العقلانية والعدالة المطلوبتين لإنجاح أي حوار سواء بالنسبة للمجتمعات أو بالنسبة للعالم . لن يكون الأمر سهلاً ولكنها الحقيقة التي يجب أن تواجه بلا لف أو دوران، فلقد تعب العالم من كثرة الثرثرة وقلة الفعل .
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.