محمود القصاب
يستطيع أي متابع لتطور الأحداث في الأقطار العربية التي شهدت ثورات وانتفاضات شعبية، التوصل إلى عدد من الحقائق المهمة، التي يمكن أن تساعد على فهم طبيعة الصراعات السياسية والاجتماعية التي عاشتها الدول، وكذلك تفسير أسباب التقلبات والمخاضات التي لازال البعض الآخر يرزح تحتها، والمآلات التي يمكن أن تنتهي إليها، سواء التي أخذت فيها الأحداث طابعاً سلمياً، أو اتجهت إلى مواجهات مسلحة فيما يشبه الحرب الأهلية.
أول هذه الحقائق أن الدول العربية التي تفجرت فيها الثورات والتحركات الشعبية، عانت دون استثناء من سطوة أنظمة دكتاتورية مستبدة، ارتكبت بحق شعبها كل أشكال الانتهاكات لحقوق الإنسان، من قتل وسجن وتعذيب وملاحقات وقطع أرزاق، وغيرها من صنوف التمييز والإقصاء لدوافع سياسية أو طائفية، إضافة إلى رعايتها لكل صور الفساد بدءًا من نهب المال العام، مروراً بالعبث بممتلكات الدولة وشراء الذمم، ودفع الرشاوى والاحتكار والمزاحمة التجارية غير المشروعة، وانتهاء بالمحسوبية التي تدمر الكفاءات الوطنية، مع استمرار نخر هذه العلل والأمراض في هياكل ومؤسسات الدولة التي تحوّلت إلى عبء أمام نهوض وتقدّم أوطانها، وهو ما ولّد غضباً دفيناً عند المواطنين، كان يتفاقم مع الوقت حتى جاءت الفرصة المناسبة لينفجر في وجه السلطات الباطشة على شكل ثورات وانتفاضات شعبية عارمة، باحثة عن الحرية والكرامة والعدالة، لتكشف عن كل ما كان يعتمل تحت السطح من تفاعلات سياسية واجتماعية.
الحقيقة الثانية هي أن كل القوى السياسية والاجتماعية التي كانت طرفاً في الصراعات التي تفجرت، سوف تجد نفسها في نهاية المطاف، وبعد كل التضحيات والخسائر البشرية والمادية، جالسةً على طاولة المفاوضات مهما بلغت حدة هذه الصراعات بينها، فلكل أزمة نهاية مهما طالت أو تعقدت، وسيكون جلوس هذه الأطراف على طاولة الحوار هو البداية التي يجب أن توصلها إلى النهاية المطلوبة، وهي إنهاء الأزمة القائمة. وعادةً ما تذهب هذه القوى إلى الحلول السياسية والتسويات تحت ضغط الأزمة أو المشكلة رغبةً في تفادي النزاعات واتساع رقعتها، وبالتالي تحاشي تداعياتها السلبية وآثارها المدمرة.
الحقيقة الثالثة هي أن النزاعات والصراعات التي تحركها العصبيات الطائفية والمذهبية أو القبلية، التي هي دون الوطنية، تستعصي دائماً على الحلول السياسية التقليدية التي يمكن أن تكون نتاج عملية حوارية أو تفاوضية، بل وتكون هذه العصبيات عادةً محفّزةً على العنف والعنف المضاد، ولذلك تشكّل مصدر تهديدٍ للمجتمع والدولة برمتها، بالتفكك والانحلال. وأمامنا العديد من الأمثلة في الدول العربية التي لجأت الأنظمة السياسية فيها إلى إثارة هذه العصبيات بصورةٍ متعمّدةٍ لشق المجتمع وإضعافه حتى تتمكن من احتواء أو إفشال التحركات الشعبية القائمة ضدها، بعكس الصراعات أو الخلافات التي تنحصر في إطارها الوطني، بحيث يكون الوطن وتطوّره سياسياً وديمقراطياً «محورها»، والمواطن وحقوقه «هدفها» ومحركها. ومهما اشتدت هذه الخلافات سوف تبقى الوحدة الوطنية سقفاً ضابطاً ومعياراً وازناً لهذه الخلافات.
الحقيقة الرابعة والأخيرة… هي أن أية حوارات أو مفاوضات تحدث في ظل شروط بالغة القسوة، وبالغة الاختلال لمصلحة طرف دون آخر، فإن توقع أي نتائج إيجابية هو من قبيل الوهم، ولسنا بحاجةٍ هنا إلى سوق الأدلة من التجارب البعيدة عنا، فكل جولات الحوار السابقة عندنا، كان أحد أسباب فشلها يعود إلى غياب التكافؤ بين الأطراف المتحاورة.
اليوم في ظل المرحلة الصعبة والحرجة التي يجتازها بلدنا، وأمام حالة الإرباك والغموض التي تلف المشهد السياسي، ومع تزايد حالة الشكوك وعدم ثقة المواطنين في قدرة الجولة الجديدة المنتظرة (إذا ما عقدت) على إحداث اختراق مهم في جدار الأزمة المستفحلة، في ظل كل هذه، يبرز السؤال المهم وهو: هل الدعوة الأخيرة التي وجهت للقوى الوطنية السياسية المعارضة والقوى الموالية على حد سواء، هل هذه الدعوة ذاهبة في السياق أو التوجه الذي يستوعب الحقائق الأربع التي أشرنا إليها قبل قليل، بمعنى هل هناك إرادة سياسية حقيقية عازمة على تجاوز كل العقبات السابقة، والوقوف على جذور الأزمة وما أدت إليه من تداعيات طالت كل المستويات، وبالتالي الذهاب إلى مقاربة كل أسبابها من إشكالات وتحديات سياسية وحقوقية واجتماعية وأمنية، وهي للأسف إشكالات تزداد تعقيداً مع مرور الوقت وبقاء الأزمة دون أي حل سياسي، وهي اليوم تنتظر قرارات جريئة ومواقف حاسمة لا تقبل التردد أو التسويف، كما تتطلب عدم الإنصات إلى «عويل» و»زعيق» القوى الإقصائية والتأزيمية، وعدم الخضوع لتهديداتها الفارغة ومواقفها الموتورة التي كانت ولازالت تتحمل المسئولية الكبرى في طأفنة الصراع السياسي في البلاد، والانحدار به إلى المستويات الخطيرة وغير المسبوقة في تمزق وانشطار مجتمعنا.
بالعودة إلى سؤالنا، يمكن القول وبكل أسف، إن كل المؤشرات والمعطيات المتوفرة على أرض الواقع حتى الآن لا تساعد أو تسعف على الإجابة بنعم، وبشكل أكثر وضوحاً وصراحة لا يبدو أن الجانب الرسمي في عجلة من أمره، وهو حتى اليوم لم يقدّم الدليل على أنه مستعدٌ للدخول في مفاوضات جادة مع قوى المعارضة وتهيئة الأجواء لمثل هذه الخطوة، إضافةً إلى غياب أي مؤشر على استعداده لتقديم أية تنازلات قد يراها من النوع الصعب أو المؤلم، وهو لذلك لا يجد نفسه (الجانب الرسمي) مضطراً للوصول إلى تسوية سياسية عادلة، لأنه يعتقد بأنه قادر بشكل أو بآخر، على التعايش مع أية تداعيات أو صعوبات سياسية أو اجتماعية أو أمنية يمكن أن تفرزها الأزمة. وهذا ربما الذي يرجّح فرضية التعويل على الوقت وانتظار المدى الذي يمكن أن تذهب إليه أو تستقر عنده الأحداث والتطورات الإقليمية المتفاعلة في المنطقة. وهنا تكمن إحدى عُقَد الحوار، وهنا يبرز أحد وجوه مأزق التسوية السياسية للأزمة عندنا.
أما الوجه الآخر لهذا المأزق فهو في غياب أية مبادرة أو مشروع سياسي لدى السلطات السياسية، يمكن أن يكشف حدود سقفها السياسي، وهو أمر يمثل أحد مطالب القوى السياسية المعارضة، في الوقت الذي يتم فيه إجهاض مبادرات قوى المعارضة الواحدة تلو الأخرى، بحجة «الثوابت» و«المبادئ» غير مسموح الاقتراب منها أو «الخطوط الحمراء» التي لا يجوز اختراقها… كيف؟ ولماذا؟ هذا ما سنحاول أن نلقي عليه الضوء في مقال قادم إن شاء الله.