هاني الريس
في شهر فبراير/ شباط من العام 1965، قامت شركة نفط البحرين المحدودة (بابكو) وهي إحدى الشركات الفرعية المملوكة بالكامل لشركة أميركية، بفصل أكثر من 400 عامل من وظائفهم دفعة واحدة، وكانت الأسباب التي سيقت لتبرير هذا التصرف الأخرق عديدة وواهية، لكن أحدها يبدو الأهم وهو محاولة المسئولين عن الشركة التخلص من العامل البحريني واستبداله بالأيادي العاملة الأجنبية الرخيصة، وزيادة الاحتكار والثراء الفاحش على حساب العمال المواطنين، وكانت ردة الفعل الفورية على ذلك الحدث المفتعل، هو أن تقدم العمال المفصولين بشكوى لدى دائرة العمل البحرينية، حيث تجمهروا هناك بأعداد كبيرة، وأطلقوا صيحات تحميل المسئولين في شركة النفط، المسئولية في هذه القضية، فكانت الصيحات المدوية التي تصاعدت في سماء مدينة العوالي، مقر هذه الشركة، بمثابة الشرارة الأولى التي أوقدت المشعل الملتهب، حيث لم يجد العمال وعائلاتهم سوى التظاهر للتعبير عن رفضهم لهذا الإجراء التعسفي.
ثم تدحرجت كرة الثلج تدريجياً، وبدأ العد التنازلي للتحرك من مراكز العمل والمدارس الثانوية والإعدادية والابتدائية للبنين والبنات، في أيام الخامس والسادس والسابع وما تلاها من الأيام الأخرى من شهر مارس/ آذار 1965، وذلك من أجل التعبير عن التضامن الوطني الواسع النطاق، مع العمال المفصولين من الشركة الأميركية، ثم تطورت الأمور بعد ذلك إلى تحركات شعبية حاشدة في المدن والقرى البحرينية، تطالب ليس فقط بعودة العمال المفصولين إلى أعمالهم وإيقاف حملات القمع والاعتقالات التعسفية ومنع الإجراءات المشددة والصارمة، التي صادرت حق التنظيم النقابي في البحرين، وإنما أيضاً محاسبة المسئولين الذين تسببوا في افتعال تلك الأزمة الخطيرة.
وإضافة إلى ذلك، كانت هناك أسباب أخرى ساعدت على اندلاع هذه الانتفاضة وتفعيل دورها لعدة شهور متتالية، كان من أهمها على الإطلاق:
1 – تراكم الاستياء الشعبي من ممارسات القمع والتعسف العام وبخاصة بين الفئات الفقيرة والمسحوقة في قاع المجتمع البحريني، والتي كانت تبحث بالكاد عمّا يسد رمق الجوع في بلد خليجي نفطي.
2 – الأجواء المفروضة على البلاد منذ قمع انتفاضة هيئة الاتحاد الوطني، والتي تزايدت بحدة في العام 1965، والمتمثلة في فرض حالة الطوارئ، حيث تعرضت مختلف فصائل الحركة الوطنية إلى المداهمات والمطاردات والاعتقالات السياسية العشوائية، والنفي التعسفي والمضايقات العديدة.
3 – تزايد الوجود البريطاني العسكري والسياسي بعد العام 1957، وتزايدت معه بشكل صارخ، تدخلات المقيم السياسي الفضة، في الشأن الداخلي البحريني.
4 – رفض سلطة الحماية البريطانية، الاستجابة لمطالب الحركة الوطنية السياسية، وكذلك الحركة العمالية، سواء فيما يتعلق بالحرية بالنسبة للأولى أو مطلب قيام النقابات بالنسبة للثانية، وإصرارها على ممارسة الأساليب الاستبدادية القمعية القديمة، في تجاهل الإرادة الشعبية، وحرمان الناس من أبسط حقوق المواطنة المشروعة.
5 – تصاعد المواجهة بين حركة التحرر العربية، والاستعمار البريطاني، سواء في جنوب اليمن أو الحملات السياسية العنيفة التي شنها الرئيس جمال عبدالناصر على بريطانيا، والتشجيع المباشر للحركة القومية العربية، لمقارعة المستعمر وإخراجه من المنطقة، كما أن تزايد النضال في جنوب اليمن بقيادة الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل، قد أثار لدى القوميين العرب الكثير من الطموحات لمد النضال إلى عمان والبحرين ومناطق الخليج الأخرى لتحرير المنطقة من السيطرة البريطانية الغاشمة.
وهكذا كان من الطبيعي وأمام التسريح الكيفي للعمال في شركة نفط البحرين، وأمام ازدراء سلطة الحماية البريطانية وعدم استجابتها للمناشدات والمساعي الحميدة، من أجل إعادة العمال المسرحين إلى أعمالهم، حدثت موجة سخط عارمة لدى شعب البحرين برمته، توّجت في القيام بالتحرك المطلبي الواسع النطاق، للضغط على شركة نفط البحرين، ومحاولات إجبارها، على إعادة العمال المسرحين إلى أعمالهم بشتى الوسائل، ولم يكن ازدراء سلطة الحماية البريطانية وتعنتهما في عدم الاستجابة لمطالب الحركة الوطنية والعمالية، وليد تلك المرحلة بالذات، بل كان امتداداً للعام 1956 الذي تحركت فيه هيئة الاتحاد الوطني لتغيير الأوضاع السيئة في البلاد، ورفعت الحركة الوطنية بمختلف فصائلها مطلب عودة العمال المسرحين فوراً إلى أعمالهم وحقهم في تشكيل النقابات التي تدافع عن حقوقهم.
ونتيجة لتداعيات هذا الحدث العمالي، وإصرار شركة نفط البحرين، على عدم الاستجابة للمطالب الوطنية المتعلقة بأوضاع العمال، تولدت الشرارة الكبيرة، التي أشعلت، انتفاضة الخامس من مارس المجيدة للعام 1965، التي زلزلت أجهزة سلطة الحماية البريطانية، وكانت في مجمل شعاراتها وأهدافها وأمانيها وطموحاتها صورة التظاهر السلمي النابذة للعنف بمختلف أشكاله وألوانه، حيث خرج الطلبة والعمال صفاً واحداً موحداً منادين بمطالبهم العادلة في الحرية والديمقراطية وضد سياسات التمييز والاستغلال، فكلما قامت شركة نفط البحرين بتسريح العشرات من العمال المواطنين كل يوم، خرجت مجاميع باقي العمال إلى مكاتب هذه الشركة في مدينة العوالي مطالبة بحقوقها، والسماح للعمال المسرحين بالعودة إلى أعمالهم التي حرموا منها بشكل تعسفي، فما كان من مدير الشركة الأميركي «جوزيفسون» الذي شعر بالخوف والقلق من قوة الإضرابات التي حاصرت مكاتب الشركة، وتداعياتها في مختلف المناطق البحرينية.
وفي صبيحة يوم الخامس من مارس 1965، وفي ساحة (مدرسة الهداية الخليفية للبنين) بمدينة المحرق، انطلقت أولى صيحات الغضب الشعبي، ضد قوات الحماية البريطانية والشركات الاحتكارية، وكانت تردد الشعارات التي تنادي بحق العمال في العودة إلى أعمالهم، وبعد مرور ثلاثة أيام فقط على هذه التظاهرة الحاشدة المطلبية، نظمت في ساحة المدرسة الثانوية في المنامة، تظاهرة أخرى عملاقة، أحرجت إدارة المدرسة، التي عجزت عن إخمادها، وما كادت هذه التظاهرة أن تجتاز الفناء الخارجي للمدرسة وسط الشارع العام، للقاء ببقية فئات الشعب التي تجمعت هناك، حتى انقض عليها مئات من الجنود المسلحين والخيالة من خلفهم بالهراوات وقوة كبيرة من حاملي البنادق والمدافع التي تطلق الغازات المسيلة للدموع، في محاولة يائسة لتفريقهم ومصادرة حقهم في التعبير، ما أدى إلى تحرك شعبي واسع النطاق في مختلف المدارس البحرينية، يدعو إلى وقف أعمال القمع ضد الطلاب ومختلف التظاهرات السلمية وإطلاق الحريات العامة، وضرورة جلاء قوات سلطة الحماية البريطانية عن قواعدها في البحرين.
وفي مساء ذلك اليوم، ألقت قوات الأمن القبض على بعض الطلبة استناداً على الصور المأخوذة لهم عن طريق الطائرات المروحية (الهليوكبتر) التي كانت تحلق بكثافة على فناء المدرسة الثانوية، على مدى ساعات التظاهرة، وساقتهم إلى المعتقلات بأساليب بشعة، في سابقة أمنية خطيرة لا مثيل لها في تاريخ البحرين.
وفي اليوم التاسع من مارس، استعانت قوات الأمن بالمصفحات وسيارات الشرطة (الجيب)، ورصدت تحركات التظاهرات، عند جسر مدينة المحرق وعلى بوابة القلعة ومركز شرطة القضيبية، وكانت هناك أعداد هائلة من قوات الأمن يراقبون تصعيد الأوضاع عن كثب، ويتعرفون على طلائع التظاهرات، التي تصل العاصمة، وفي الساعة الثامنة صباحاً تجمع الطلبة في فناء المدرسة الثانوية، وأرادوا الخروج للتعبير عن مشاعرهم تجاه العمال المسرحين وسخطهم على السياسات الظالمة، غير أن قوات الأمن، كانوا لهم بالمرصاد يتعقبون كل خطوة من خطواتهم.
تناقلت في تلك الفترة وسائل الإعلام العربية والعالمية على حد سواء الأنباء الواردة من البحرين حول تحركات الحركة المطلبية، وتفريق التظاهرات العمالية والطلابية، وتصاعد حملات الاعتقال التعسفي في صفوف المواطنيين المطالبين بالحريات والحقوق المدنية والعمالية المشروعة، حيث وجهت كل هذه الوسائل أشد الانتقادات إلى سلطة الحماية البريطانية، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، بينما كانت الأخيرة ترد عليها بالمغالطات والأكاذيب الملفقة.
ومضى اليوم السابع من مارس، وكانت أصداء المقاومة المدنية السلمية، تشتد بوتيرة قوية للدفاع عن النفس والتصدي لمواجهة جحافل قوات سلطة الحماية البريطانية، حيث تحرك الشعب بكامل ثقله من نساء ورجال، وطلاب وطالبات وحتى الشيوخ والأطفال، وقفوا وقفة رجل واحد شجاع واستمرت المظاهرات طيلة ثلاثة شهور متتالية، وقد خرجت طالبات المدرسة الثانوية بالمنامة وطالبات الرفاع وسترة والمحرق ومن مختلف قرى البلاد، للتظاهر، وسقط الشهداء «عبدالله بونوده، وفيصل القصاب، وعبدالنبي محمد سرحان، وعبدالله الغانم، وجاسم خليل» وعشرات غيرهم ممن أصيبوا بطلقات الرصاص. ولكن كل ذلك القمع لم يفلح في القضاء على الحركة، اذ حتى استجابت شركة نفط البحرين بإعادة العمال المسرحين.
تواصل الحراك العمال بعد ذلك، واستوعب الحراك آنذاك شرائح متنوعة من المجتمع، وكانت المطالب واضحة وهي: سن قانون العمل النقابي، السماح بتشكيل النقابات والاتحادات المهنية.
في مطلع السبعينات من القرن الماضي، طرحت الجهات الرسمية مشروع «اللجان العمالية الاستشارية» ثم «اللجان العمالية المشتركة»، والذي ثبت فشلها بقوة في تحسين أوضاع العمال، وفي عمليات إعادة تأهيل أسواق العمل الوطنية، ولم تفلح حتى في الحصول على اعتراف المحافل العمالية الدولية، وظل حينها اتحاد عمال البحرين والحراك الذي يقف خلفه ممثلاً للحركة العمالية البحرينية طوال سنوات حقبة السبعينات والثمانينات والتسعينات، واستطاع أن يفضح عمل وسلوك هذه اللجان الوهمية، وكل ممارساتها المناهضة لقوانين العمل الوطنية والدولية، الى ان تأسس اتحاد مشروع في مطلع الألفية يمثل العمال ويحظى بثقة وإعتراف الجهات الدولية.
واليوم تمر الذكرى الـ 49 على انتفاضة مارس المجيدة وذاكرة شعب البحرين الحيوية مع حراك العمال مستمرة، وشرعية العمل النقابي البحريني تعتمد على نضال تاريخي وتمثيل حقيقي لايمكن بأي حال من الأحوال حرفه عن مساره وخلق بدائل ممسوخة يرفضها الضمير والمجتمع الدولي.