يعقوب سيادي
الحابل هو ذاك من يرعى جنين الخير الذي يعم الجميع، والنابل هو ذاك الذي يرمي بسهامه ذاك الخير، وشتان ما بين الإثنين.
الأول يسيل من لعابه ولفظه وعمله، ما يحفظ للإنسان إنسانيته، ويعطر بأنفاسه القلوب الطاهرة، الحبلى بما يجمع الناس في الحق والعدالة والمساواة، لغته لغة الله في كُتبه لخلقه، الحافظة للإنسان دمه وعرضه وماله، دون ملة ولا مذهب ولا قبيلة ولا طائفة، إلا من قتل نفساً بغير حق، أو تطاول بالتعرض للغير بالسوء، ذاك دماؤه طاهرة، إلا أن السلطات ومن ناصرها في التنبيل لا تعي ذلك، وهي التي اتّسَم قولها وفعلها بالثاني.
حين الحديث عن الحسين وآل بيت النبوة، ينبل النابل بسهام التشكيك، والنيل منهم، بما هوت نفسه الأمارة بالسوء، فينحى منحى الجهل، في تخالط المفاهيم، وقد يكون هذا حد «جوشنه» فيأتي بفرد خرج عن ميثاق النبوة، على الرغم من صلة القربى، فكأن بيت النبوة منحصر فيها، لينال من الجمع بما أتى به الفرد، فبيت النبوة معيارها الوجدان النبوي الذي أتى برسالة الله جل وعلا، وليس بقربى الدم، فأبو لهب عم الرسول، إلا أنه مات كافراً، وهناك من النابلين، من ينكر على الشيعة تشيعهم لعلي وزوجه فاطمة الزهراء بنت النبي، والحسن والحسين، وأهل بيته الطاهرين، الذين بَجّلهم وقدّسهم الخلفاء الأربعة، الذين ماتوا أكثرهم تقتيلاً في عهد الخلافة، وبغض الطرف عن اختلاف فقهي بينهم، إلا أنهم تكاملوا ببعضهم البعض، وما رواية زنى بعض الصحابة في عهد عمر، وحسمُ علىّ بن أبي طالب، للقصاص بقولته الشهيرة «إن جلدته فارجم صاحبك» التي إمتثل لها عمر، إلا دليلاً على ذاك التكامل، والصحابة أيضاً ليسوا بصحبة النبي في حياته، بل هم بصحبة رسالته.
والمذاهب الأربعة، الشافعي والحنبلي والمالكي والحنفي، أيضاً كانوا مكملين لبعضهم، بطبيعة الحال في الاختلاف الفقهي، من بعد النبوة والخلافة، إلا أنهم لم يعادوا آل بيت النبي، وأشهر القول في ذلك شعر الإمام الشافعي، وقد عانى الأئمة الأربعة الويل في سجون الدولة، نظراً لتصحيحهم الفهم الديني، الذي لم يكن في صالح ولاة الأمر، في استتباب الملك لهم بتوليهم إدارة الدولة الإسلامية. أما المذهب الشيعي فقد كان وليد عهد النبوة حين فدا عليٌّ الرسول بالنوم في فراشه، وبلغ الرشد من بعد وفاته، ولكنه لم يفتت الدولة الإسلامية، مثله اليوم مثل أتباع المذاهب الأربعة الأخرى، نقول الأتباع وليس الأئمة، في عدائهم لآل البيت، إلا أن الأصول القبلية، جعلت من الصراع المجتمعي على الخلافة قبلياً، فتفرد بها الأمويون ثم العباسيون، إلى أن آلت إلى المماليك والأتراك في الدولة العثمانية، ولم يكن هناك من مبتغى عند كل هؤلاء إلا نزع الخلافة عن آل البيت، بدءًا بابن أبي طالب، وما الحسين ابن علي إلا مجدّداً للدعوة المحمدية، التي مالت إلى غير فحواها، لصدّ الظلم ونصرة الحق، بأن كان أول من انتفض على ولي الأمر معاوية، حين بدأ توريث الخلافة لابنه يزيد، خلافاً لمبدأ الشورى الإسلامية، بأن رفض مبايعة يزيد، وقد كان للحسين شأنٌ في المجتمع الإسلامي، فهو بهذا أوجع يزيد وأباه، خصوصاً وأنه كسر فكرة موالاة الوالي، عادلاً كان أو ظالماً، تلك الفكرة التي تحفظ للغاصب توليه الملك.
واليوم نسمع من اللغو في القول والبطش في الفعل، ما يمس آل البيت بالسوء ممن يجهل التاريخ، ومن يختلقه لغاية في نفسه، رجوعاً إلى الصراع القبلي الذي بدأ بعد عصر الخلافة الراشدة، ليطال المذهب الشيعي بما يطال أهل بيت النبوة، فيدّعي كذباً أو لمبتغى النفس القبلية، أن الحسين خرج للكوفة ابتغاء الخلافة، بالحرب على يزيد، وهو لا يتعدى تعداد جيشه تعداد أهله، بأقل من المئة، في قبالة جيش دولة يزيد بعشرات الآلاف من الرماة والفوارس، فلم يفقه هؤلاء إرادة الله في فعله، فإما ناصره في الحرب وإما مُمِيته وأهله، وفي كلتا الحالتين، هو نصر من الله، ليس آنياً بل هو آتٍ، فلولا تضحية الحسين، ما بان رجس يزيدٍ وأبيه، وما شحذ همم أهل الحق من السنة والشيعة، بما هو واقعهم اليوم من الانتشار ومن الصبر على الابتلاء، والمبادرة بتقديم النفس والمال لتحقيق العدالة، ولكي نغلق الباب على المضاهاة والأمثلة بالبلاد الأخرى. فحديثي هنا عن شيعة وسنة البحرين خصوصاً، وليس عن عمومهما في العالم، مع التحفظ على بعض الممارسات.
وكلما تألّم الآخرون من أداء شيعة البحرين، كلما نسجوا الخرافات المذهبية، حول الشيعة عموماً، فمنهم قائل بأنهم خذلوا الحسين في واقعة كربلاء، ثم ندموا، فهم اليوم في تتراهم الإنجابي، يلطمون حسرةً وتعذيباً للذات، وليس إحياءً بما قسم الله لهم من دور في إبقاء سيرة الحسين إلى يوم يبعثون.
فنرى اليوم في بحريننا الغالية، من بعد الألفة فيما بين مكونيها السني والشيعي، العداء للشيعة، وممن؟ من الجهات التي تخشاهم على تفردها بالسلطة والقرار، ويناصرها في ذلك بعض من السنة الجهلاء، وبعض من الدينيين، استتراءً للنزعة القبلية، تلك التي برزت بعد عهد الخلافة، ما دعا السلطات إلى ممارسة سياسة الاستفزاز في العقيدة، بغية خروج الطائفة من عقالها الديني، إلى الإحتراب الطائفي، لتستغله في النيل من أفرادها في البحرين، إلا أن الصبر والإحتمال وضبط النفس لدى الطائفة، أضاع فرصاً كثيرة على السلطات، وأبدلها إلى المواقف ضد السلطات في المحافل الدولية والإنسانية.
وعلى العقلاء مراجعة مطالب الحراك، التي ضحّى أهلنا الشيعة من أجلها، بالاستشهاد والسجون ومسّ العقيدة والعرض، وشاركهم في بعض المآسي نفرٌ من السنة الوطنيين، فلا يحفر قبره بيده إلا الجاهل والحاقد، الذي لا يرى أبعد من أرنبة أنفه، فالقادم سيذهلهم.