اسماعيل أبو البندورة
نتلفّت حولنا الآن فلا نجد الا الفراغ والبهوت والانفلات. وهذا الذي يجري في وطننا العربي في المرحلة الراهنة، أو ماتقوم به الأنظمة الآيلة للسقوط مع شعوبها هو من معطيات ومؤشرات تصريف الأعمال بالمعنى التقليدي الاكراهي السكوني، والانشغال بالوجود والاحوال، على حساب، وفي ظل غياب التفكير بالأهوال والقضايا الكبرى. انه الفراغ العامّ الطامّ الذي لاينحصر في مجالات محددة، والذي يبدد الجهود والامكانيات ويقلل من هيبة الدول ويجعلها كالعهن المنفوش بلا حول أو قوة أو دولا فاشلة بامتياز.
والفراغ السياسي الذي نتحدث عنه الآن وعن مظاهره أصبح يتمظهر بأشكال مختلفة من بينها : فوضى الأحوال والأفكار وسيولتها، غياب الاستقرار والثوابت التي تعطي الدولة جوهرها ومخبرها، اهتزاز الثقة الشعبية بقدرة وهيبة الدولة، غياب الحوارات والبرامج الوطنية الخصبة والايجابية والمنتجة، البحث عن الحلول الجزئية والمؤقتة في ادارة الدولة وتصريف شؤون الناس، هبوط الثقافة السياسية الى الحدود الدنيا وظهور الثقافة المليشياوية والقشرية، ظهور طبقات وفئات مافياوية لا هوية ولا وطن لها تعتاش على الابتزاز وافقار الشعب، وتتآلف هذه الفئات مع فئات سلطوية اخرى أصبحت ترى الأوطان شركات ومزارع تقوم على الربح والمصلحة والكسب غير المشروع، ولا تعطي بالا للسيادة وثوابت الأوطان، وتستبعد العقل والثقافة وكل مايكتنزه الشعب من أشواق وتطلعات وطنية. كما تتأسس قاعدة تفكير هذه الفئات على تكريس الاستباحة الداخلية وتسويغ الاستباحة الخارجية للذات الوطنية وللوطن بأكمله.
وكأننا أمام حالة فراغ مكبوت ومتراكم ومتغوّل، أو غير مستدرك يعيد انتاج أخطاره ومضاره على هيئة سلوك سياسي متهافت، أو كأنها حالة من الانحسار قادنا اليها ضجيج مزمن بلا طحن وانشغال عبثي بالرسمي والشكلاني واليومي، والوطنيات والقطريات الباهتة على حساب التدبّر والتبصّر والتصّور والاستشراف والاستباق، ولذا غدا هذا النمط من الاشتغال السياسي اللآعقلاني وكأنه يولّد الفراغ ويكرّسه ويرسّخه ويقدمه بديلا عن الفعل والانجاز الوطني والقومي ويكرسه حالة وطنية معتادة ودائمة.
ولذلك يجتمع الآن العجز الرسمي والعجز الشعبي الى حد كبير على تكريس هذا الفراغ واستمراء بلاهاته والتباساته وتحدياته، ليصبح هو النمط الجديد من الوطنية الانتقالية الباهتة والخطرة والعابرة، وليكون بيئة خصبة للمغامرات السياسية ولأصحاب الأجندات الخفيّة والتفتيتية التي تقوم أصلا على تفكيك المرجعيات القومية العربية الكبرى، لكي تصبح الطريق مفتوحة للأهواء السياسية العابرة، والفكر اليومي والطفولي، ولكل ألوان التجاريب الضارة التي تجعل الأوطان جغرافيا ساكنة وبلهاء وسكان لاهوية لهم ولا قرار.
الفراغ نشأ في بيئة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وأخلاقية تعنونت وترسخت بالاستبداد والفشل التنموي والسيادي والاستهتار السلطوي والاستقواء بالقمع والعصى، فتولدت قيم الطاعة والخنوع والقبول بثقافة الفراغ والخوف والتخويف باعتبارها تضمن الوجود الآمن والكسل العقلي المديد والرضى بالعيش على علّاته حتى لو كان خبزا بلا حرية أو حياة بلا كرامة أو عقلا بلا وظيفة. وكان هناك تواطؤا مستمرأ ومستمرا بين الحكام والمحكومين أدام صيغة ومعادلة الفراغ والقبول بمعطياته.
وثقافة الفراغ قاصرة بطبعها اذ أنها في بعض جوانبها تعني التمرير والتبرير والتبسيط والانسداد والفهلوة، وهي غير قادرة على انتاج وقائع وانجازات سياسية معتبرة، ولكنها قد تفرّخ أغرارا وشطارا وعيارين، مثل من نشاهدهم الآن يصولون ويجولون ويقارفون الفواحش السياسية دون أن يرف لهم جفن أو ضمير، ونراهم سائرون في سراديب العتمة هذه، أو أنهم قد قطعوا أشواطا كبيرة في هذه الدروب الملتوية.
لقد أخذ هذا الفراغ وتجلياته وأدواته اللاوطنية الأمة بأكملها الى طورنكوصي جديد ضد الأمة، بعد أن أعلنت الأمة بتمردها الأخير أنها سائرة على طريق التغيير والثورة والنهضة، واذا ببعض أقطار الأمة تتمزق وتتقاتل في أشدّ مقتلة، واذا بهذا الفراغ يأخذنا الى محن جديدة وأطوار جديدة من الانهدام والتمزق وفقدان المعنى، وكان من أبرز نتائجه اعادة انتاج معطياته مجددا بمعنى فقدان القرار والاتزان السياسي وتكسير البنية الوطنية وتغيير بوصلتها وارغامها وترويضها على قبول فكرة ومقولة "ليس بالامكان أحسن مماكان"، واختلاط الأمور حتى درجة العماء، وضياع الهدف وانفلات الواقع والدخول في معتركات واشكالات زائفة ومنفرة وطاردة.
وانتقلنا بهذه المثابة من الفراغ الى العماء السياسي حيث أصبحنا نحتاج الى اعادة تعريف بداهاتنا وثوابتنا المستقرة،وغاب عنا التمييز بين العدو الرئيس والثانوي ونشأت أحوال وظروف معقدة هي في مآلها فرصة سياسية ثمينة للعدو الصهيوني لكي يقيم جدرانه ومشاريعه الاستيطانية الجديدة، ويحقق أهدافه المشتهاة منذ أمد بعيد، وهكذا احتل العدو الفراغ بكل الطرق والأشكال واصبحنا نسير في سديم وانحدار بلا قرار.
نحتاج في هذه المرحلة الصعبة والمعقدّة أن نتنبه الى هذا الفراغ السياسي الكارثي، وأن ندقق في أعراضه وتمثلاته وتجلياته، وأن يبدأ فينا مشروعا وطنيا وقوميا غايته الأساس ملأ الفراغ بأنماط جديدة من الحوارات والأفكار والبرامج، والشروع في وضع اجابات عن مجمل التحديات المحيقة بالأمة، وتحديد الخيارات الممكنة، واستثمار المزاج الشعبي الراهن التوّاق للتغييروالثورة والتمرد على الاوضاع الراهنة لهذه الغاية القومية الملّحة، والدخول في آفاق مرحلة جديدة فاصلة وحاسمة عنوانها النهوض والحرية، أو الموت والخروج كليا من التاريخ!!