د/ يوسف مكي
مفاهيم كثيرة، تبدو استعارتها من بديهيات الأدبيات التي تتعامل مع السياسة الدولية، كالقانون الدولي والشرعية الدولية، وتوازنات القوة، ومناطق المصالح، والعمق الاستراتيجي، والدفاع عن المصالح القومية، وكثير من المفاهيم الأخرى . . . لكن وضع هذه المفاهيم في الميزان، سرعان ما يكشف لنا هشاشة القواعد التي تستند إليها هذه المفاهيم . ومعضلة هذه المفاهيم هو أنها منحازة، ابتداء، وأن كل طرف يقول بها، بما يخدم أهدافه واستراتيجياته .
في جميع الحروب التي تخوضها الدول الكبرى، ضد شعوب العالم الثالث، تكون هذه المفردات مبررات للعدوان والتوسع . ولعل ضبابية وتوسع استخدامها، هي من أسباب اللجوء إلى تدشين مؤسسات كونية، تلتحق بها جميع الدول، ويكون من مهامها الفصل في الصراعات بين الأمم، وتحديد الجهة المعتدية، ومنح هذه المؤسسات قوة التنفيذ العملي لقراراتها . لكن ذلك لا يعني أن البشرية رست أخيراً على صياغة عملية لحل الصراعات المستعصية، بنزاهة وحيادية . فقد تكشف عبر ما يقرب من قرن من الزمن، أن حسم الصراعات بين الأمم هو رهن لتوازنات القوة، وصراع الإرادات بين القوى الكبرى .
في الآونة الأخيرة، كررت وسائل الإعلام الغربية، وعلى لسان عدد من المسؤولين الأمريكيين وقادة الدول الأوروبية، عبارة اختطاف مجلس الأمن من قبل روسيا والصين . وترد وسائل الإعلام الروسية على ذلك، بالقول إن ما جرى هو وجه آخر، لانتهاء مرحلة الأحادية القطبية، وهيمنة الإدارات الأمريكية المتعاقبة، منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، على هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي .
ولا شك أن الأطروحتين، تعكسان تفاعلات توازنات القوة داخل المنظمات الدولية، وعلى رأسها مجلس الأمن . والأزمة في وجهها الآخر، تعكس عجز هيكلية مواثيق مجلس الأمن عن التكيف مع المتغيرات التي تجري في العالم، في موازين القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية .
فالأساس، أن المؤسسات الأممية في أصلها، من صنع المنتصرين، في لحظة تاريخية معينة . والزمن هو حركة مستمرة . والتوقف عند لحظة التأسيس لا يستقيم مع منطق .
كانت نهاية الحرب العالمية الأولى، والاتفاقات التي جرت أثناءها، وسقوط السلطنة العثمانية، ورغبة المنتصرين، في وضع نهاية للصراعات والحروب بين الأمم، أكدت أهمية وجود آليات وضوابط تحكم الصراعات الدولية، وتعبّر عن مناهج وسياسات المنتصرين في الحرب .
حينها بدأت الولايات المتحدة برئاسة وودرو ويلسون، بعد خروجها منتصرة في الحرب، التحضير لقيادة المعسكر الرأسمالي، وإزاحة بريطانيا وفرنسا عن الواجهة . وكانت المقدمة هي تبشير الرئيس ويلسون شعوب العالم أجمع بسيادة قيم الحرية . وعلى قاعدة مبادئه الأربعة عشر، تأسست عصبة الأمم، كمؤسسة ناظمة للعلاقات الدولية . وكان التناقض الصارخ في مبادئه، وضعه إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، ضمن منظومة الانتصار لحقوق الإنسان، حتى ولو كان ذلك على حساب تشريد شعب فلسطين من دياره . وهنا كان التماهي بين الاستعمارين التقليدي والجديد، على قاعدة تطبيق وعد بلفور المشؤوم .
وفي عصبة الأمم المتحدة، جرت التسوية التاريخية، بين جبابرة الأمس والقوة الصاعدة الجديدة . وافق ويلسون على الاستعاضة عن الاستعمار التقليدي المباشر لشعوب العالم الثالث، بتعابير أخرى، فبرزت الوصاية من خلال تعابير الحماية والانتداب . وقبل الأوروبيون أن يكونوا خلف اليانكي، خوفاً من تفرد الدب القطبي بهم .
لم تصمد عصبة الأمم المتحدة طويلاً . فبعد أقل من عقدين اندلعت الحرب العالمية الثانية، وتغيرت بشكل جذري موازين القوى الدولية . هُزم الفرنسيون أمام الألمان، وتعرضت العاصمة البريطانية، لقصف ألماني جوي يومي . وسقطت دول أوروبية عدة أمام قوة الاندفاع العسكري الألماني . ولم يتبق في الساحة، من هو قادر فعلاً على مواجهة هتلر، وإلحاق الهزيمة الشاملة به، سوى الولايات المتحدة المحتمية بالمحيط، والاتحاد السوفييتي، المحكوم آنذاك بستار حديدي قاس وصارم، تحت قيادة جوزيف ستالين .
مبادئ ويلسون الرافضة للاستعمار، والمبشرة بفجر جديد ليس فيه سيد أو مسود، هي الواجهة التي استثمرها الأمريكيون لتنفيذ مشروع إزاحة الاستعمار التقليدي عن
العالم، وتسلم أمريكا عرش الهيمنة الدولية . وقبل الأوروبيون بمنطق الإزاحة، وشهدت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تأسيس هيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، والصعود الكاسح لحركة التحرر الوطني في العالم الثالث . والمعنى
جلي وواضح، تراجع فرنسا وبريطانيا وإسبانيا، كقوى استعمارية قديمة لمصلحة القوة الصاعدة، قوة الولايات المتحدة الأمريكية .
استندت الشراكة الأمريكية – الأوروبية، إلى تعهد الأولى بسط مظلتها النووية، فوق أوروبا الغربية، وحمايتها من أي هجوم سوفييتي، وتلك كانت أهم ملامح الحرب الباردة بين القطبين العظيمين . ويتعهد الحلفاء بالانخراط في حلف عسكري تقوده أمريكا، عرف بالناتو . وكانت عضوية فرنسا وبريطانيا والصين الوطنية الدائمة في مجلس الأمن، تعبيراً عن تبعيتها لأمريكا، أكثر مما هي تعبير عن موازين القوة بين القوى العظمى .
في مرحلة الحرب الباردة، تبادل الأمريكيون والسوفييت، استخدام الفيتو، ضد بعضهما بعضاً، وأصبحت المناقشات في مجلس الأمن الدولي، صورة أخرى لتلك الحرب . وشهدت تلك الحقبة صراعات قاسية حول ملفات عدة الملف الكوبي، الأزمة الكورية، الحروب في الهند الصينية، الغزو الروسي للمجر، أزمة الكونغو، حرب السويس، قضية استقلال الجزائر، الحروب العربية “الإسرائيلية” المتكررة .
منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، تربعت الولايات المتحدة على عرش الهيمنة العالمية، ولم يعد بمقدور أية قوة في الأرض منافستها على استخدام الفيتو . والعجيب أن فرنسا هي أول من كسر القاعدة من الدول، حين هددت في عام 2003 باستخدام حق النقض، لعدم تمكين الرئيس بوش من استصدار قرار من مجلس الأمن يجيز احتلال العراق . ومنذ ذلك الحين، كرّت السبحة، وبرز الدب القطبي مجدداً ومعه الصين، لينتهي التفرد الأمريكي باستخدام الفيتو، ليس بالتلويح ولكن بالاستخدام الفعلي له مرات عدة .
والخلاصة، فإن ما نشهده الآن في مجلس الأمن من اتهامات متبادلة، هو استعادة لروح الحرب الباردة، وهو دليل آخر، على العجز عن تحديد تعريف دقيق ومسلم به من قبل الجميع بالمفاهيم التي افتتحنا به هذا الحديث، وأن السياسات الدولية، في المحصلة لا تحكم من خلال قوانين الخير والعدل، بل من خلال توازنات القوة، وصراع الإرادات، وهي توازنات وصراعات مفتوحة، ومتحركة شأنها شأن كل العناصر الإنسانية المحرّكة للتاريخ .