هاني الفردان
روايات متعددة، وأخبار وتصريحات، تناقلتها صحف محلية ووكالات أنباء عالمية، ومواقع إلكترونية، وحسابات خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي (تويتر)، عن ما حدث في مركز الحبس الاحتياطي في الحوض الجاف.
ولأنه وكما يقول المثل الشعبي «الكل يجر النار لقرصه»، والكل يغني على ليلاه، ويبث مظلوميته، فالأهالي والحقوقيون تحدّثوا عن «مجزرة» وإصابة أربعين من الموقوفين، حتى ذهب البعض بعيداً للحديث عن استخدام سلاح الرصاص الانشطاري (الشوزن) والغازات المسيلة للدموع والقنابل الصوتية والهراوات داخل السجن، مع إغلاق المكيفات وفتحات التهوية.
وزارة الداخلية، من جانبها، تحدّثت وعلى لسان مفتشها العام الذي اتهم «مجموعة من المحبوسين احتياطياً في مركز الحبس الاحتياطي بأعمال فوضى وشغب وتخريب لمحتويات الحبس، كما قاموا بمنع رجال الأمن من أداء واجبهم الأمر الذي استدعى تدخل الأجهزة الأمنية المختصة للسيطرة على الوضع وإعادته إلى طبيعته».
حتى الآن القضية بها طرفان، يتقاذفان الاتهامات، وكل منهما يرمي الكرة في ملعب الثاني، ونحن بحاجةٍ إلى جهة محايدة مستقلة، تمتلك من الصلاحيات الكثيرة للتحقيق، والخروج بنتيجة واضحة منطقية عقلانية يمكن تقبلها، تنهي حالة الجدل، وتنصف المظلوم.
النيابة العامة سارعت في وقت متأخر من ليلة يوم الجمعة (16 أغسطس/ آب 2013) لإصدار بيان على لسان وكيل النيابة القائم بأعمال رئيس نيابة محافظة المحرق، بأنها باشرت التحقيق في القضية، بعد إخطار من مديرية شرطة محافظة المحرق مفاده قيام مجموعة من المحبوسين احتياطياً في توقيف الحوض الجاف بإثارة الفوضى في أحد عنابر التوقيف وإتلاف محتوياته ما استدعى تدخل قوات الشرطة لضبط الأمن وإعادة الوضع إلى طبيعته.
النيابة العامة -بحسب بيانها- باشرت التحقيق بسؤال «أفراد الحراسة بالتوقيف، وأجمعوا على أنه تم ضبط هواتف نقالة داخل أحد العنابر عند تفتيشها من قبل أحد الضباط وأفراد من الشرطة، وفور ضبطها قام الموقوفون بالعنبر بالاعتداء على سلامة جسم الضابط وأفراد الشرطة المرافقين له في التفتيش ما أدى إلى إصابتهم بإصابات متفرقة أبانت عنها التقارير الطبية، كما قاموا بخلع الأبواب وإتلاف بعض الأدوات الكهربائية الموجودة بداخل العنبر، فتم التعامل معهم من قبل الشرطة والسيطرة عليهم».
وعلى إثر تلك الأقوال، سارعت النيابة إلى انتداب الطبيب الشرعي لتوقيع الكشف الطبي على أعضاء الشرطة المصابين لبيان ما بهم من إصابات وسبب وكيفية وقوعها. كما أمرت بجلب المتهمين من محبسهم لاستجوابهم حول ما نسب إليهم.
ولم يشر بيان النيابة العامة إلى سؤال الطرف الآخر في القضية وهم الموقوفون عن ما حدث، ولم تسمع النيابة العامة منهم لروايتهم، ولم تشر أيضاً في بيانها عن وقوع إصابات في صفوفهم، ولم تنتدب -وبحسب بيانها- الطبيب الشرعي أيضاً لتوقيع الكشف الطبي على المصابين منهم لبيان ما بهم من إصابات وسبب وكيفية وقوعها، ولم تأمر بجلب المتهمين من أفراد الشرطة لاستجوابهم حول ما نسب إليهم من قبل الموقوفين.
علماً بأن الأهالي، وحقوقيين، ووكالات أنباء عالمية تحدثت عن وجود 40 مصاباً من الموقوفين، جرّاء الأحداث، ولكن لم تشر الجهات الرسمية لذلك، ولم يتم الحديث عنها، وجلّ حديثها تركز على رجال الأمن وسلامة إجراءاتهم وإصاباتهم.
يوم السبت قام وفد المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان (وهي مؤسسة حكومية رسمية) بزيارة سجن الحوض الجاف، واستمعت إلى الطرفين المسئولين الآمنين، والموقوفين وروايتهم، على حد قولها، وأكدت بعد ذلك بأنه ثبت لديها من خلال معاينة المحبوسين في جميع الغرف بالعنبر رقم (10) وعددها 14 غرفة، وجود آثار سوء معاملة على أجساد بعض المحبوسين، ولم يتم استخدام سلاح الشوزن والقنابل المسيلة للدموع، واستخدمت فقط قنابل صوتية ورش مادة الفلفل لتهدئة الأمور.
من الواضح أن هذه القضية لم تأتِ من فراغ، وأن المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان (الرسمية) استمعت لمطالب الموقوفين وتركزت على معاملة السجناء معاملة إنسانية وفق المعايير الدولية لحقوق الإنسان وإعادة النظر في نظام الزيارات بما يتيح الخصوصية أثناء الالتقاء بالأهل والسماح بالالتقاء بالمحامين والخروج لممارسة الرياضة في الهواء الطلق والاهتمام بجودة الوجبات الغذائية، مع توفيرها بشكل كاف مع توفير أدوات النظافة الشخصية، وكذلك توفير أسرّة كافية لجميع المحبوسين.
بعد ذلك صدر أمس الأحد بيان من النيابة العامة وجهت فيه التهم لأربعة من الموقوفين بعد السماع لثمانية من الشرطة بصفتهم مجنياً عليهم، وانتدبت الطبيب الشرعي لفحص المجني عليهم والمتهمين لبيان ما بهم من إصابات وكيفية وقوعها. وذلك بأن كشفت المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان عن وجود آثار سوء معاملة على أجساد بعض المحبوسين.
من خلال السرد السابق تتضح لنا الكثير من المعالم، كيف تعاملت جهات رسمية أمنية وقضائية مع الحادثة، كيف انحازت جهات لصالح طرف ضد طرف، وكيف تم غضّ البصر عن معاناة الموقوفين، وكيف ركّزت جهات على مظلومية وإصابات طرف، فيما لم تذكر إصابات الطرف الآخر!
بعد هذا السرد، من حق الرأي العام أن يفرق بين الجهة التي يثق بها وفي سلامة إجراءاتها، والجهة التي لا يثق بها؛ بين الطرف الذي يصدّقه، والطرف الذي يكذبه؛ وبين من يعتد ببياناته، ومن لا يؤخذ بأقواله.
حقيقة البلد تكمن هنا، فليس كل ما يقال يصدق، وفي الكثير من الأحيان يؤخذ الصدق من نقيضه.
وعموماً للرأي العام أن يصدّق ما يشاء من تلك الروايات، ولكن يبقى السؤال: من سيحقّق في القضية؟ وأية جهة يمكن أن يثق بسلامة إجراءاتها؟ ومن سيسمع للموقوفين ويحقّق في أقوالهم؟