اسماعيل ابو البندورة
في معظم الحقب التاريخية التي كانت تلوح لنا فيها خيوط الضوء والأمل، وآفاق التغيير، وممكنات التقدم، كنا نجد أنفسنا في دوامة اختلاط وفوضى نكاد فيها أن نفقد توازننا التاريخي والسياسي، ونعود الى مربعات ابتدائية وقبل أولية، ويتحول الأمر لدينا الى سؤال اشكالي ضاغط ومرير حول كيفية الخروج من شرنقة الأزمة والتأزم والانسداد .
هذا الانحكام بالتأزم السياسي والاستغراق فيه وفي غياهبه ومتاهاته وعماءاته، اصبح 'باستسلام معرفي وواقعي منا' والى حد كبير سياقا وقسمة من قسمات تاريخنا وتطورنا، وأصبحنا أسراه وضحاياه في آن واحد منذ أن بدأت النداءات الاولى للتحرر والنهضة والتقدم، أو منذ بدايات التكوين التاريخي للأمة، واستمرعلى هذا النحو حالة التباسية مؤرقة، ونمطا تجابهيا تشطيريا جارحا، نكاد لانخرج من اساره وبراثنه وأخطاره وأضراره .
ظهر التأزم في تاريخنا منذ بدايات الخصومات التاريخية والسياسية الاولى الطاعنة في القدم، واستمر حتى هذه اللحظة لأسباب مفهومة احيانا، وغير مفهومة في معظم الأحيان، وتميز بجوهره وماهيته الصراعية التنابذية عن الاختلاف في الرأي والشرعية المبرّرة لهذا الاختلاف، ذلك أن الاختلاف وآلياته، وتجلياته شيء، وصياغة التأزم شيء آخر . التأزم حالة سلبية سكونية ونكوصية واحباطية نابذة وطاردة، يؤدي اليها ضيق الأفق والتعصب والواحدية، ورفض التسامح، والانسداد، وانعدام الأمل والبدائل، أما الاختلاف فهو ظاهرة طبيعية بين البشر تتضمن بشكل من الأشكال صراعا حضاريا ناعما انسانويا مقبولا من اجل الوصول الى الحقيقة والوحدة، وتنافسا على تقديم الأفضل من البدائل، وهو في مؤداه النهائي يقود الى ائتلاف وتآلف وانسجام، ويؤدي الى صياغة تركيب جديد يعمّق ويعلي من شأن ومستوى القضايا المختلف عليها وشأن ومستوى المتحاورين حولها .
كان صراع الأفكار والرؤى موجودا وقائما منذ الأزل، وهو ما أدّى في سياقاته ومآلاته الى ابتداع أفكار ومعادلات عقلية جديدة وخصبة، وتوليد فرص وطرق ومساحات وممكنات لفهم الآخر واحترامه والتشارك معه في صياغة قوانين الحياة ونواميسها وأعرافها وآفاقها .
ولم يكن لمثل هذا الصراع الايجابي الخلاق أن يولد تأزما دائما وأزليا، يتوالد ويتواجد ويستحضر في كل الأزمان، وانما تمت في أتونه توافقات، ورسخت فيه يقينات ومسلمات وصياغات فكرية توفيقية، أدت الى تحويله الى تاريخ وتراث ايجابي أو سلبي، يمكن توظيفه لغايات التقدم والنهضة واشاعة التعايش والتسامح، أو استثارته بصورته السلبية وتحريكه لتوليد اشكاليات زائفة واستغراق في العدمية ، ولكنه لم يكن ليوضع أمام العقل في كل الأزمان لكي يعيق ولادة الصياغات والتفاهمات والانبثاقات الجديدة، أو يضع عراقيل في دروب الحرية والنهضة والتقدم .
وهذا هو ما يثير الانتباه والاستغراب لدى كل دارس ومحلل للحالة العربية في أطوارها وتعرجاتها المختلفة، ذلك أننا لانزال نستحضر هذه التراثات الصراعية ونعيد انتاجها في كل لحظة مفصلية يراد لنا فيها أن نفكر بقضايا حيوية وانقاذية بديلة، ولا نزال نبدد جهودا كثيرة في سبيل تأجيج هذه الصراعات واستدخالها في أي حوارات حول الحاضر والمستقبل، حتى أننا نكاد القول أن ذلك أصبح سمة ونسقا وسبيلا لا مفر منه في أي حوار عربي، وفي أية محاولة للتوفيق بين الفرقاء والخروج من الأزمة وعنق الزجاجة الذي يضيق.
كانت في تاريخنا ولا تزال مساحات للتأزم والاصطراع والانقسام، ولكنها لم تتحول في معظم الحالات الى قوانين أبدية أو أقدار راسخة يراد لنا أن نغط فيها الى الأبد ونبقى أسرى لها، أو أن تبقى هي الأبرز في حياتنا وفكرنا وعقلنا العربي، وآن الأوان لكي نبدأ في تحليل هذه البنية الانقسامية التأزيمية وتشخيصها ووضعها 'معرفيا وتحليليا ' على جدول أعمال الفكر العربي الراهن المأزوم الذي اصبحت تبارحه كما نرى اشتعالات العقل وارادة المعرفه، واستبدالها بفهم معرفي عميق ومتجدد لحالة الأمة العربية يغير أطوار معاشها وينهض بعقلها وحواراتها من اجل فهم الحاضر وصياغة المستقبل.