د. عبدالعزيز المقالح
لم يكن الخامس من يونيو/حزيران 1967م يوماً للهزيمة العربية فحسب، ولكنه نجح في إسقاط نفسه على الشهر كله وربما على ذلك العام بأكمله، فصار يونيو لدى كثيرٍ منّا، نحن العرب، شهر النكسة والسقوط المدوّي.كما صار العام 1967م رمزاً لذلك الانكسار.
وكأنّ الأيام والشهور والسنين هي التي تصنع الخيبات والانكسارات وتتحمل مسؤولياتها نيابة عن البشر، ولهذا أضحى يونيو شهراً غير مرغوب فيه نفسياً . وكان يمكن للخامس من هذا الشهر أن يكون يوم انتصار ساطع لو أن العرب أحسنوا استعدادهم، وكانوا في المستوى المطلوب لمواجهة أعدائهم الكثير، أولئك الذين تمترسوا وراء الكيان الصهيوني وجعلوا منه الواجهة لتحقيق أهدافهم الخبيثة . وفي هذا السياق، وبعد كل السنوات التي عبرت فوق ذلك اليوم المشئوم ينطرح في الواقع العربي سؤال طالما تردد في مثل هذه المناسبة المؤلمة وهو: إلى متى سنظل نتذكر ما حدث في ذلك اليوم بحسرة ومرارة حتى بعد أن تم تجاوزه بانتصارات حروب الاستنزاف من ناحية وبانتصار السادس من أكتوبر 1973م من ناحية ثانية؟
ومثلما تم تجاوز الخامس من يونيو، وما حاق بالعرب فيه من هزيمة موجعة بذلك القدر من الانتصارات، فقد تم تجاوزه أيضاً بمجموعة من الهزائم الأقسى والأنكى، هزائم هنا، وهزائم هناك، وغزوات فاضحة جعلت من هزيمة يونيو مجرد صفحة في كتاب مثقل بالهزائم المريعة . وأتساءل: هل يحدث هذا ويتكرر لأن العرب كانوا قبل يونيو 1967م، يعيشون حالة شعور بالتفوق والقدرة على إحراز النصر، وأنهم في ذلك الحين لم يكونوا قد جرّبوا من الهزائم ما يدفعهم إلى أن يحفروا ذلك اليوم في مكان بارز من الذاكرة الساخنة؟ تساؤل تصعب الإجابة الفورية عنه. وإن كانت الإجابة المطلوبة تشكِّل مدخلاً صحيحاً ومهماً إلى إدراك الفوارق بين هزيمة وهزيمة، وبين قيادة مخلصة وأمينة وقيادات لا مكان للأمانة والإخلاص في حياتها، لذلك كانت تلك الهزيمة وهي الأولى من نوعها مريرة وجارحة، وتمكنت من أن تحفر صورتها في تلافيف الذاكرة كل هذا الوقت.
ويصح القول، في هذا السياق، استنتاجاً متأخراً لما حدث ويحدث، إننا نحن أبناء هذه الأمة، قد تعودنا منذ وقت طويل وسابق لعقد الستينات من القرن المنصرم وما تلاه من عقود، تعذيبَ الذات وتجريح المراحل، لاسيما بعد أن استولت علينا حالة من الإفراط في الادّعاء وحالة من التفريط بالحذر والاستعداد . إضافة إلى نجاحنا الباهر في التهويل والتهوين، تهويل في ردود أفعال الانتكاسات العابرة، وتهوين من قدرتنا على تجاوز كل الانكسارات التي تمر بالشعوب . ويبدو أن هذه الحالات المتضاربة والمتناقضة قد جعلتنا غير قادرين على الاستفادة من تجاربنا الكثيرة ومن تجارب الآخرين، لنتمكن من الخروج السريع والمتفائل من دائرة التذكر المؤلم والتحديق في صور الخذلان وكل ما رافق مسيرتنا المتعثرة منذ بداية ما سمي بالعصر الحديث حتى اليوم.
وفي ضوء الإشارات السابقة يمكن القول إنه بقدر ما كانت هزيمة الخامس من يونيو 1967م، كارثية وفاجعة، فإنها كانت في المقابل بداية لصحوة وطنية وقومية، ودرساً بليغاً لإعادة النظر في كل القضايا وفي مقدمتها السياسية والاجتماعية . كما أكدت شيئاً مهماً ظل غائباً في المراحل السابقة واللاحقة وهو الاستهانة بالعدو ومن يسانده من قوى عالمية وجدت فيه الشرير أو “القبضاي” الذي يجعل المنطقة العربية في حالة توتر، وتعطيل كل محاولة تدفع بأبنائها في الاتجاه الصحيح نحو بناء دولتهم الواحدة التي تقوم على مجموعة من الولايات الناهضة والمشاركة في بناء عصر الحرية والعدالة والكرامة والسلام .
ولذلك لم يعد هناك أدنى شك في أن المخطط المدروس بعناية قد نجح وحقق الهدف المنشود في تأخير الأقطار العربية وجعلها تغرق في مستنقعات الخلافات الثانوية بدلاً من الاستعداد للانقضاض على هذا العدو المصنوع أولاً، والمزروع ثانياً بعناية دولية فائقة، وفي المكان الذي تجمعت فيه المصالح وتشابكت المنافسات.