محمود كعوش
(5 حزيران 1967)
لا خلاف حول حقيقة أن ما حدث في الخامس من حزيران قبل ستة وأربعين عاماً شكل في نظر غالبية العرب نكبة قومية أخرى،
أضيفت إلى النكبة الكبرى التي ألمت بالأمة العربية والتي تمثلت بإقدام الإرهابيين الصهاينة على احتلال فلسطين في عام 1948. لكن تلك النكبة وإن كانت مفاجئة ومؤلمة جداً إلا أنها مثلت اختباراً قوياً للأمة العربية كونها أمة أمجاد تاريخية وحضارة عريقة ومن غير الممكن أن تسقط وتتهاوى بسهولة.
لقد سبق لهذه الأمة العظيمة أن تعرضت على مدار تاريخها الطويل لكثير من الغزوات والاعتداءات التي قام بها الطامعون والحاقدون والمستعمرون، ولكن كل هؤلاء كانوا قد مروا فوق أرضها وزالوا بينما بقيت هي ثابتة كالطود وبقيت جذورها ضاربة في عمق أعماق التاريخ، وهو ما نريده لها في الحاضر ونسعى لأن يكون في المستقبل بعون الله وهمة وإرادة رجالها الأوفياء الصابرين.
ومن دواعي الحزن والأسى ومبعث الإحباط وخيبة الأمل أن تحل الذكرى السادسة والأربعون لعدوان الخامس من حزيران هذا العام فيما لم يزل حال النظام الرسمي العربي على أسوأ ما يمكن أن يكون عليه من التردي والعجز والهوان والوهن وفقدان الإرادة وامتهان الكرامة، الأمر الذي استدعى تفجر الثورات الشعبية في العديد من الأقطار العربية، والتي لم تزل تتوهج وتنذر باحتمال تمددها إلى غالبية أقطار الوطن العربي إن لم يكن إليها كلها.
في ذلك اليوم المشؤوم شن الإرهابيون الصهاينة حرباً عدوانيةً شرسة استهدفت ثلاثة من الأقطار العربية هي مصر وسوريا والأردن أطلق عليها المراقبون تسمية "الحرب الثالثة"، وفق تسلسل الحروب بين العرب والصهاينة، بعد نكبة فلسطين في عام 1948 والعدوان الثلاثي على مصر في عام 1956. وفي محاولة للتخفيف من وطأة النتائج والإرهاصات والآثار السلبية الفادحة والمفجعة التي نجمت عن تلك الحرب العدوانية على مستوى الأمة العربية التي كانت تعيش أوج مدها القومي وذروة آمالها العريضة بقرب أزوف اللحظة الموعودة التي يتم فيها تحرير فلسطين من الاغتصاب الصهيوني، أطلق الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر عليها تسمية "نكسة حزيران"، بعد أن تحمل مسؤولية ما جرى، وفق ما افترضته شجاعة ورجولة القادة التاريخيين الكبار.
لا شك أن تلك الحرب العدوانية شكلت بكل ما أفرزته من نتائج عسكرية وسياسية واقتصادية وجيواستراتيجية تحولاً خطيراً في مجرى الصراع العربي ـ الصهيوني بشكل عام والصراع الفلسطيني ـ الصهيوني بشكل خاص، بفعل ما نجم عنها من خللٍ واضحٍ وخطيرٍ في توازن القوى بين الأقطار العربية مجتمعة من جهة وكيان العدو من جهة أخرى. فبذريعتها أًعيدت القضية الفلسطينية مجدداً وبشكل مفاجئ وغير محسوب إلى ردهات منظمة الأمم المتحدة لتواجه دوامة جديدة ومعقدة من التكتلات والصراعات والمماحكات والمناقشات والاجتهادات الدولية والإقليمية والعربية حول قرارات ومشاريع قرارات متواترة ومتلاحقة، أدت بالنتيجة إلى صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 في 22 تشرين الثاني 1967 والذي تضمن حسب زعم مجلس الأمن "ما اعتبر مبادئ حلٍ سلميٍ" لها. لكن ذلك القرار ما لبث أن أُحبط بعدما فسر الكيان اللقيط بنوده بالكيفية التي أرادها ورفضه رفضاً قاطعاً!!
في ما يختص بالنتائج التي ترتبت على تلك الحرب العدوانية السافرة، يمكن القول أن كيان العدو الصهيوني استطاع أن يؤكد لمعسكر الغرب الإمبريالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية تفوقه على العرب، الأمر الذي عزز مكانته لدى ذلك المعسكر إلى درجة جعلته يأتمنه على كل مصالحه في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام والوطن العربي بشكل خاص.
على الصعيد العسكري تمكن ذلك الكيان من السيطرة على مساحات كبيرةٍ من الأراضي العربية بلغت أكثر من أربعة أضعاف ما احتله إبان نكبة عام 1948. كما فتح مضائق تيران وسيطر على شرم الشيخ وضمن لنفسه الملاحة في خليج العقبة. وعلى الصعيد الاقتصادي، تمكن من السيطرة على المصادر النفطية في شبه جزيرة سيناء المصرية حتى ربيع 1982، وعلى موارد المياه في مرتفعات الجولان السورية والضفة الغربية وأصبح بمقدوره تطوير عملية الهجرة والاستيطان في الأراضي العربية المحتلة بالشكل الذي رغب فيه. أما على الصعيد الجيو ـ استراتيجي، فقد تقدم الكيان الصهيوني البغيض أكثر فأكثر من عواصم عربية كبيرة وفاعلة مثل القاهرة ودمشق وعمان، ووسع من عمقه الإستراتيجي.
وبموجب نتائج تلك الحرب كسب أوراقاً جديدةً للمساومة، بعدما تمكن من أقامة حدوده الجديدة عند موانع أرضية طبيعية محكمة وحساسة كقناة السويس ونهر الأردن ومرتفعات الجولان. وقد أثر ذلك في الروح المعنوية لجيشه وقادته إلى حد أن وهمهم وغرورهم صورا لهم أنهم تمكنوا من فرض إرادتهم على العرب وباتوا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق مطامعهم التوسعية التي رسمتها استراتيجيتهم الهدامة في الوطن العربي!!
أما في ما يختص بالجانب العربي، فإننا إذا ما سلمنا جدلاً بأن ما كسبه كيان العدو في تلك الحرب جاء على حساب خسارة العرب وإذا ما نحينا جانباً نتائج تلك الحرب على الصعيدين الاقتصادي والجيو ـ استراتيجي، فيمكن الجزم بأنها على مستوى نتائجها السياسية أيقظت الوجدان العربي وهزّته هزا عنيفاً، ونبّهت الشعور القومي إلى الخطر الداهم على كل العرب من المحيط إلى الخليج. وانعكس ذلك على التحرك العربي الذي اتخذ اتجاهاتٍ عملية وسريعةً لإزالة آثارها ودعم مواقع الصمود والاعتماد على الأصالة الذاتية للأمة العربية. كما وأن تلك الحرب وما ترتب عليها من "نكسةٍ" قاسيةٍ على العرب، كشفت للعالم أجمع أكذوبة "الكيان الضعيف الذي يهدده العرب من كل الاتجاهات"، مما أكسب العرب عطفاً دولياً وتضامناً مع قضاياهم ساعدهم على عزله عالمياً، لكن وللأسف إلى أمد لم يطل كثيراً.
لا شك أن القوات العربية قد منيت في تلك الحرب بخسائر فادحة على المستويين البشري والمادي. غير أن هذه القوات استطاعت أن تتحرك سريعاً وتعيد بناء وتنظيم قدراتها وإمكاناتها، واستطاعت في فترةٍ وجيزةٍ أن تتعافى وتعود أقوى مما كانت عليه من قبل، وذلك بفضل الدعم العربي ودعم الدول الصديقة.
وعلاوةً على ذلك فقد دفعت مرارة "النكسة" الجماهير العربية والحكومات والقوات المسلحة العربية إلى العمل الدؤوب من أجل رفع مستوى القدرة القتالية والتأهب للثأر الذي طال انتظاره!! ولربما أن ما فاق كل ذلك أهميةً، حسبما أجمع المراقبون الحياديون في حينه، هو أن تلك "النكسة" أو "الهزيمة" التي ألمت بالعرب قد زادتهم إصراراً وتصميماً على مواجهة التحديات والمخاطر المحدقة، بدلالات قرارات مؤتمر قمة الخرطوم وحرب الاستنزاف ومعركة الكرامة، وبدلالة متابعة الاستعدادات لبلوغ النصر، الأمر الذي لم يمكن الكيان المصطنع من فرض أهدافه السياسية على العرب أو إخضاعهم لإرادته وإرادة المعسكر الغربي الذي اعتمده شرطياً "أميناً" على مصالحه.
وبخصوص قرار مجلس الأمن الدولي 242 الذي بعد خمسة شهور من عدوان الخامس من حزيران 1967 فيمكن القول أن استخفاف حكومة كيان العدو به وتهربها من تنفيذه قد ضاعفا من إصرار وتصميم العرب على مواجهة التحديات والمخاطر المحدقة بهم، الأمر الذي اقتضى بدء مرحلة عربية جديدة تميزت باتساع رقعة نفوذ الثورة الفلسطينية وتعدد ساحات ومعارك النضال الفلسطيني المسلح وتزايد تأييد حركات التحرر الوطنية والقومية العربية والتقدمية العالمية.
لكن كل ذلك لم يُثنِ ذلك الكيان العنصري عن سياسته العدوانية، التي تمثلت بمواصلة تنفيذ مخططاته الجهنمية الخاصة بقضم وضم الأراضي العربية المحتلة شبراً شبراً، ورفض كل المبادرات الدولية الهادفة إلى تسوية الصراع العربي ـ الصهيوني بالوسائل السلمية، وتحدي ميثاق منظمة الأمم المتحدة والإيغال في انتهاك مبادئه. واستمر الوضع على ذاك المنوال إلى أن نشبت الحرب العربية ـ الصهيونية الرابعة في السادس من تشرين الأول عام 1973.
سُجل للعرب في تلك الحرب أنهم استطاعوا لأول مرة في تاريخهم الحديث أن ينتزعوا زمام المبادرة من عدوهم، وأن ينتقلوا بنجاحٍ من حالة الدفاع إلى الهجوم الإستراتيجي، وأن يفاجئوا العالم بأخذهم ذلك العدو على حين غرة، وأن يحطموا نظرية الأمن الصهيوني وأسطورة التفوق المزعوم، وأن يثبتوا قدرتهم على التضامن والعمل المشترك لتحقيق هدفٍ واحدٍ موحد. وإن لم تفضِ حرب السادس من تشرين الأول إلى نصرٍ عسكريٍ كبير وحاسمٍ لأيٍ من طرفي الصراع بفعل الدعم الغربي لكيان العدو الصهيوني الذي تمثل بالجسر الجوي الذي أقامته واشنطن بين تل أبيب وعواصم الحلف الأطلسي في أوروبا وبفعل جنوح الرئيس أنور السادات إلى "السلم وفق الرؤية الأميركية ـ الصهيونية المشتركة" وتطويعه نتائجها لغايات قطرية ضيقة، إلا أنها رجحت كفة العرب وجاءت في كثير من نتائجها لصالحهم، وبالأخص على المستوى السياسي.
ولربما أن حالة التضامن التي أظهرها العرب في مواجهة العدو المشترك كانت من أهم وأبرز نتائج تلك الحرب وأكثرها قيمةً وتأثيراً، إذ مكنتهم من محو آثار "نكسة" الخامس من حزيران 1967 بجدارة واقتدار. فعلى وقع صدى رجحان كفة العرب في حرب تشرين الأول عام 1973 وإيقاع نقر دفوف انتصاراتهم في الأعوام 2000 و2006 و2008 على الجبهتين اللبنانية ـ الصهيونية والفلسطينية ـ الصهيونية ومع تعاظم الآمال المعقودة على نهج المقاومة والممانعة المتنامي بثبات وصلابة في الوطن العربي باعتباره خيار الأمة الأمثل والأنجع، يتجدد طرح السؤال الملح والمترافق مع كثير من التمنيات: ترى هل يُتاح للعرب أن يشهدوا من جديد تضامناً عربياً مماثلاً للذي شهدوه في حرب تشرين الأول 1973 على خلفية نكسة الخامس من حزيران 1967 وحرب الاستنزاف العظيمة يمكنهم من دحر كيان العدو الصهيوني وتلقينه الدرس الذي يستحق والذي طال انتظاره؟ نأمل وننتظر بتفاؤل!!
وإلى لقاء يتجدد…..