عبدالنبي العكري
ظهرت في السنوات الأخيرة في العلاقات الدولية، تعبيرات ومصطلحات جديدة، من بينها «الدولة المارقة» و»الدولة الفاشلة»، وهما مترابطان كما ثبت من خلال رصد مصائر الدول والأنظمة السياسية.
تعبير «الدولة المارقة» أطلق على الدول التي تخرج على القانون الدولي والعلاقات الدولية المعهودة، وبالطبع يمكن توظيف التعبير والتصنيف لاعتبارات ومصالح سياسية، فمثلاً العرب يطلقون على «إسرائيل» الدولة المارقة، بينما تطلقه أميركا على كوريا الشمالية وإيران.
وإذا تفحصنا الدول العربية فإن معظمها دول مارقة، فعدا أنها لا تحترم القانون الدولي فإنها لا تحترم دساتيرها وقوانينها، مع انهم أعضاء في الأمم المتحدة ومنظماتها مثل مجلس حقوق الإنسان والعمل الدولية واليونسكو وغيرها، وبعضهم من مؤسسيها. كما أن معظم هذه الدول مصدّقة على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المتعلقة بالعلاقات فيما بين الدول وفي التعامل مع مواطنيها والمقيمين فيها من الأجانب وغيرهم. غالبية الدول العربية موقعة بالطبع على ميثاق الأمم المتحدة والذي يعتبر مرجعاً في العلاقات بين الدول، ومسئولية كل دولة تجاه جيرانها والمجتمع الدولي، ودور الأمم المتحدة في تنظيم العلاقات الدولية. لكن مراجعة سريعة لعلاقات الدول العربية فيما بينها والتي يجب أن تهتدي إلى جانب ميثاق الأمم المتحدة، بميثاق جامعة الدول العربية والمعاهدات الأخرى، مثل ميثاق الدفاع المشترك، والأهم علاقات الأخوة والدم والجوار فيما بينها وما بين مواطنيها، فإن تاريخ العلاقات فيما بينها مليء بالحروب والاعتداءات والمؤامرات والتدخلات بل والاحتلالات. وإذا تفحصنا المشهد العربي الحالي وعلاقات الدول العربية ودور الجامعة العربية، ودور بعض الدول في تسيير هذه الجامعة، فإنه مشهد مؤلم وبالغ الدلالة، خصوصاً حين نقارنه بالعلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي وتعاملهم مع بلدان أعضاء شهدت حروباً مثل يوغسلافيا السابقة (البوسنة والهرسك وكوسوفا).
الدول العربية لا تملك قرارها، وكل مجموعة محسوبة على قوى كبرى تسيرها، وهي في سياساتها تجاه القضايا الخطيرة تجرى وراء الدول الكبرى، وهذا لا ينفى أن لها مصالحها الذاتية ودوافعها، وغالباً ما تكون أنانية وضيقة الأفق وتحبط المصالح القومية.
ولو تمعنا في معالجة الدول العربية والجامعة العربية للأزمة السورية مثلاً، لوجدنا أنها كارثية بكل المقاييس. أولاً أضحى من المعتاد أن الجامعة العربية لا تتعاطى جدياً ناهيك عن التدخل في أي أزمة، إلا إذا خرجت عن السيطرة، أو أضحت في عهدة الدول الكبرى، تحت حجة السيادة المطلقة. وبالنسبة لسورية كان واجب الجامعة أن تتدخل سياسياً على الأقل في بداية الأزمة للمساعدة في حث النظام والمعارضة للتفاوض من أجل إصلاحات تستجيب لتطلعات الشعب السوري في الديمقراطية والحرية والكرامة، لكنها لم تفعل، وتطورت الاحتجاجات السلمية تدريجياً إلى عنف ثم إلى حرب أهلية، وتدخل معظم الدول الإقليمية والدولية فيها سواءً بإرسال المقاتلين والأسلحة أو التدخل مباشرة في الحرب إلى جانب أحد الطرفين المتحاربين. والآن أضحت الآمال معلقة على نجاح مؤتمر جنيف 2 برعاية أميركا وروسيا، وأضحت الجامعة العربية وأعضاؤها في وضع المتفرج بعدما دُوّلت القضية السورية.
هذا نموذج لانتهاك ميثاق الجامعة العربية على يد أعضائها، فضلاً عن انتهاكهم ميثاق الأمم المتحدة والاتفاقيات العربية والدولية التي تربطهم. وبالطبع لن نتعرض لعشرات الاتفاقيات العربية والدولية التي ارتبطت بها الدول العربية، المتعلقة بمسئولية الدولة في إدارة شئون البلاد واقتصادها وسيادتها ورفاه أبنائها والمقيمين فيها، وحقوق المواطنين السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وحقوق المقيمين فيها، فهذه حدّث ولا حرج. فالدول العربية ومن خلال الواقع المعاش تخرق كل هذه الاتفاقيات وخصوصاً المتعلقة بحقوق الإنسان.
ونأتي إلى الوجه الآخر، وهو الدولة الفاشلة، فقد طوّرت مدرسة كنيدي في جامعة هارفارد مفهوم الدولة الناجحة والدولة الفاشلة. وخلاصته أن الدولة الفاشلة هي التي تفشل في إدارة شئون البلاد من جميع جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية، وتأمين السعادة الوطنية والاستقرار للبلاد والأمان للشعب، وتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، ومشاركة المواطنين في إدارة شئون بلادهم، وضمان الرفاه والتقدم المستمرين.
وإذا تمعّنا في أوضاع الدول العربية فهي فاشلة بامتياز، والدليل هذا الإعصار الذي انطلق من تونس في ديسمبر/كانون الأول 2010، ليجتاح الوطن العربي، مطالباً بالتغيير الشامل، وقد أطاح بأربعة أنظمة استبدادية حتى الآن.
والمفارقة أن الوطن العربي الذي يحتوى على ثروات طبيعة وبشرية هائلة، ومنها النفط والغاز والمياه والموقع المتوسط والممرات الدولية مثل قناة السويس، هو في الموقع المتدني بمختلف دوله، في قيامها بالمهام الأساسية للبلد والمواطنين. لذا نجد الدول العربية في مقدمة الدول الموصومة بالفساد وغياب الحريات، وتدني الإنتاج والإنتاجية، والانكشاف الاقتصادي، والعجز المالي والتجاري، والفقر والجوع، وغياب الديمقراطية وحرية التعبير، والاضطرابات بل والحروب الأهلية، وتهميش الشعب خصوصاً المرأة والشباب. وفي الوقت ذاته تتبوأ أنظمتنا العربية المقدمة في الاستبداد وعدم تداول السلطة، والتعذيب وتمركز السلطة وديمومتها حتى في الأنظمة الجمهورية (الجملكية)، واستباحه سيادتها.
باختصار أضحت الدول العربية دولاً فاشلة، تنقطع فيها الكهرباء والمياه ويتدهور مستوى الصحة والتعليم، ويعيش بعضها عالةً على المساعدات، بينما يجود بعضها بالمساعدات والاستثمارات للأغراب.
فشل الدولة العربية لأنها دول مارقة، وهي فاشلة لأنها مارقة. الاعتراف بالفشل فضيلة، لكن أنظمتنا لا تعرف الفضيلة فكيف تعترف بفشلها.