د. عبدالعزيز المقالح
لا أصدق ما تناقلته الأنباء وتوسعت في التعليق عليه الصحافة المقروءة والقنوات المرئية، من أن أحد المقاتلين في صفوف المعارضة السورية قد تمادى في التمثيل بجثة جندي حكومي وسارع إلى نزع كبده من جسده ومضى يمضغها متلذذاً على مرأى ومسمع وأمام الكاميرا . وإذا كانت الصورة حقيقية
وصحّ ما تناولته عنها الوسائل الإعلامية فإننا نحن العرب نكون قد وصلنا في هذه المرحلة من تاريخنا إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه من السقوط في درك الكراهية وقيعان الضغينة . ولم يعد هناك مدى يفصلنا عن وحوش الغابة، تلك التي بدأت تنقرض بعدما أفزعتها الوحوش الآدمية وجعلت بقاءها على وجه الأرض مستحيلا، حيث لم يترك الإنسان المنحرف وسيلة من وسائل الفتك إلا واتخذها عن وعي منحرف وضمير دفين، وبعد أن تخلّى عن كل صلة تربطه بالإنسانية التي لم تفقد- عبر العصور- رغم كل ما أحاط بها من اختلالات ذلك الشعاع الضئيل من الوازع الإنساني.
لا أصدق، أقولها وقلبي يرتجف، وقلمي يرتجف، من أن يكون ما قيل صحيحاً، ولو كان صحيحاً فمعنى ذلك أننا قادمون على مرحلة اقتتال وحروب أهلية تجعل المواطن في هذا القطر العربي أو ذلك يسير فوق جثة أخيه مختالاً وهو يدري، وقد لا يتردد في أن ينزع ساعده أو ساقه ويلتهم ما عليهما من لحم ثم يرمي بالعظام إلى لكلاب . إن كان سيبقى على ظهر هذه الأرض كلاب! وأتوقع إذا استمر الحال على ما هو عليه أن يصل حقد بعضنا على بعضنا درجة لم يسبق للوحوش نفسها أن وصلت إليها أو مارست ما هو في مستواها من الوحشية، وقد قيل إن الذئب لا يقتل ذئباً مثله، ولا يأكل لحمه، حتى لو بلغ به الجوع حد الموت . فما الذي جعلنا أكثر شراسة من الذئاب، وما الذي حكم علينا بأن نصير حديث العالم في التوحش النادر والغريب؟ ثم ما الذي دفع بنا إلى استخدام آليات الحروب القديمة من السكاكين والفؤوس والسيوف والرماح بعدما عفا عليها الزمن وأصبحت في خبر كان؟
إنني خائف ومرعوب لا مما يحدث حالياً وحسب، وإنما مما سوف يحدث . ولا أشك في أن الإسلام في هذه اللحظة الفارقة من حياة المسلمين يتعرض لإفراغه من معانيه الحقيقية على أيدي أعدائه والمتربصين به، وبتوجهات من خصومه التاريخيين والمعاصرين الذين أجادوا صناعة الفتنة ووضعوا قواعدها بإتقان . ولا ننسى أنهم نجحوا قبل ذلك في غزو ديار الإسلام وحققوا نجاحاً باهراً في نهب الثروات والتحكم في المسارات السياسية والاقتصادية ولكنهم ظلوا يعتبرون ذلك النجاح منقوصاً ولن يكتمل إلا إذا بدأ المسلمون يأكل بعضهم بعضاً، وينهشون في الأرواح والأجساد، وما الرياح الخبيثة التي بدأت تهب على الوطن العربي والعالم الإسلامي حاملة بذور الانشقاقات المذهبية والطائفية، ما هي إلا الغزوة الأكبر والأفظع، وكأنها بالنسبة إليهم تمثل الاجتياح الأخير . وقد لا نفاجأ إذا ما رأينا قادة الاستعمار والهيمنة هم الذين يقومون بالوساطة بين المتناحرين المسلمين وأنهم حملة أغصان الزيتون!
لم يكن جديداً أن يقتل المسلم أخاه المسلم في معارك غير ذات معنى ولا قيمة . كما لم يكن جديداً أن يقتل العربي أخاه العربي في معارك وهمية غير ذات قيمة، ولا معنى أيضاً، لكن الغريب والجديد أن يأكل العربي لحم العربي على مرأى ومسمع من العالم، وبحضور آلات التصوير والتسجيل . وفي هذه الصورة البشعة من الدلائل ما يثبت أن أعداءنا نجحوا وحققوا أقصى ما كانوا يتمنونه في أن يأكل المسلمون بعضهم بعضاً، وأن تمتلئ قلوبهم بهذا الكم من الحقد الذي يتزايد ويفيض كراهية وبغضاً، ويأخذ أبعاداً مدمرة تحول بين كل المحاولات التي قد يتولاها بعض العقلاء لنزع فتيل الخلافات الدائرة . ولعل ما ينبغي أن يكون موضع اهتمامنا في لحظات كهذه أن نرفع أصواتنا عالية لتقول إن هذا الذي يحدث لا علاقة له لا بالإسلام ولا بالعروبة، وإن التسامح والرحمة هما من أبرز سمات الإسلام ومن صميم بنيته العقلية وأسسه العقائدية والفكرية .