عبدالنبي العكري
في حوار مع مسئول في الدولة، حيث بدأ الخلاف واضحاً بين تقييم كلٍّ منا لما أنجزته اللجنة الحكومية الأهلية المشتركة، وأمام كم التقارير الضافية التي تتحدث عن الإنجازات، قلت له: «إما أنكم تعيشون في عالم افتراضي لا علاقة له بالواقع، وإما أننا كشعب، نعيش في عالم افتراضي، وهذا غير ممكن لأننا نكتوي بالواقع كل يوم».
وبالفعل فقد طوّرت السلطة خطاباً إعلامياً مدروساً وممنهجاً، يتم تلوينه لجميع المسئولين من وزراء وسفراء وبرلمانيين وصحافيين، وناطقين باسم الحكومة، في الداخل والخارج وفي جميع المحافل، وفي الندوات والمؤتمرات والمناظرات. ويستند هذا الخطاب إلى أن نظامنا السياسي يماثل أعرق الديمقراطيات في العالم، من حيث الملكية الدستورية الديمقراطية، المستندة إلى دستورٍ راقٍ جرى وضعه بتفويض من قبل الشعب في استفتاء على ميثاق العمل الوطني حاز 98.4 في المئة من المقترعين، وأن هذا الدستور يضمن استقلالية السلطات وتعاونها. وبناءً عليه أقيمت سلطة تشريعية من مجلسين، (نواب منتخب وشورى معين)، كما هو الحال في المملكة المتحدة التي تعلمنا منها الكثير. ومن خلال السلطة التشريعية هذه تصاغ وتصدر القوانين، التي تتوافق مع الدستور بعد دراسة وتمحيص ونقاشات معمقة، مستعينين بأفضل المستشارين الذين جلبناهم من الخارج للاستفادة من الخبرات العالمية. ولا بأس أحياناً من الاستعانة برؤية الاختصاصين المواطنين كلاً في مجال اختصاصه، وكذلك الاستفادة من رأي منظمات المجتمع المدني.
وحيث إن الدستور والقوانين لا تنفذ نفسها بنفسها، فقد أقمنا سلطة تنفيذية ممثلةً في الوزارات والهيئات والمجالس والبلديات، في هيكل دقيق لبنية الدولة، لا تتداخل فيه الصلاحيات ويتميز بالكفاءة وسرعة الإنجاز وجوده الخدمات، بحيث إننا أنشأنا مؤسسة خاصة بالتميّز، تقيس كلّ ذلك بمهنية وحيادية وتضع كل مؤسسة أو مدرسة أو مستوصف في مكانه، بحيث أضحينا ننافس مؤسسة «الايزو» العالمية للجودة.
وإلى جانب ذلك طوّرنا جهازاً قضائياً مستقلاً كل الاستقلال عن باقي أجهزة الدولة، ولا بأس من الاستعانة بالمستشارين والقضاة الأشقاء بما يملكون من خبرات وحنكة. وإلى جانب القضاء هناك النيابة العامة، التي انتزعناها من وزارة الداخلية إلى حرم القضاء المستقل، وأعدنا تأهيل أعضائها من الضباط والذين تركوا لباس الكاكي وراءهم وتدثروا باللباس الوطني المدني.
وأحد مظاهر الملكية الدستورية ودولة النظام والقانون، أقمنا المحكمة الدستورية من شيوخ القانون، وأنطنا بها كل الصلاحيات للفصل في منازعات القوانين ودستوريتها.
ولتعزيز الرقابة على السلطة التنفيذية والدولة عموماً، فقد أنشأنا ديوان الرقابة المالية والإدارية، وهي تصدر كل عام تقريراً موثّقاً بحالات الفساد والمخالفات المالية والإدارية بحق الجميع بمن فيهم الوزراء. كما صدر قانون إعلان الذمة المالية الذي يلزم الوزراء والنواب بالكشف عن ذمتهم المالية، وحسابهم عسير إن اكتشف استغلالهم للمنصب الحكومي للمصلحة الخاصة.
بعد أن استمعت لهذه المرافعة أعتقد محدثي أنه أفحمني وما عليّ سوى الانضمام لفريق المدافعين عن الدولة الديمقراطية المدنية الدستورية في مواجهة دعاة الدولة الدينية الطائفية الرجعية.
قلت لمحدّثي: المشكلة إذا كان ما ذكرته صحيحاً، فلماذا يخرج عشرات الآلاف بل بلغوا في بعض المظاهرات 150 ألفاً، ويطالبون بالتغيير الحكومي والإصلاح الديمقراطي الحقيقي، بعدما تراكمت المشاكل على رغم امتلاك الحكومة لإمكانيات هائلة واستقرار الحكم في العقود الماضية، بينما توقّف بناء المدن وطالت قائمة الإسكان حتى بلغت 50 ألف طلب، وزادت سنوات الانتظار إلى 20 عاماً، فيما يحصل من يُعطى الجنسية حديثاً على بيت الإسكان الحكومي خلال فترة وجيزة. وبعد أن كنا نتفاخر كوننا أغلبيةً في بلادنا تحوّلنا إلى أقلية، وكأننا ضيوف في بلادنا، وفي ظل التجنس السياسي الواسع، تحوّلنا إلى مواطنين من الدرجة الثانية، حيث الأولوية لأصحاب الجنسية الحديثة، في الوظائف والخدمات، وبدلاً من أن يساهم التوسع الاقتصادي في الحد من البطالة، ارتفعت نسبة البطالة وخصوصاً في أوساط الجامعيين والنساء بحيث تجاوزت 7 في المئة ومنهم أطباء ومهندسون.
وفي ظلّ الرقابة الصارمة للبرلمان وديوان الرقابة جرى الاستيلاء علناً على 65 كيلومتراً مربعاً من أراضي الدولة يقدّر ثمنها بعشرات المليارات من الدنانير، واختفت مئات الملايين من الفوائض المالية في موازنة الدولة، فيما تعمد الحكومة للاستدانة بحيث وصل الدين العام لما يزيد على أربعة مليارات دينار، بكلفة فوائد باهظة، هذا في حين ترفض الحكومة زيادة الرواتب والتقاعد المجمّدة لعقدين من الزمن. وبالتالي انكمشت القدرة الشرائية للمواطن، حيث آلاف الأسر تعيش على رواتب دون الـ 200 دينار شهرياً، وتتضخم فيه أرصدة الهوامير حيث انضم العشرات منهم لقائمة البليونيرية على قائمة «فوربس».
نعم هناك شكلياً دولة مؤسسات، وهناك دستور وقوانين ولوائح، وانضممنا كطرفٍ في الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان والعمل اللائق والبيئة النظيفة، واستخدام الذرة للأغراض السلمية، واستخدام الفضاء الخارجي للتنمية. كما أنها عضو فاعل في الأمم المتحدة، وفي مجلس حقوق الإنسان، واليونكتاد، واليونسكو ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة العمل الدولية، ومنظمة التجارة العالمية ومنظمات النقل الجوى والبحري والبرى، ونثرى هذه المنظمات بالخبرات البحرينية، كما أن برلماننا عضو فاعل في الاتحاد البرلماني العالمي ويساهم بفعالية في إشاعة الديمقراطية البرلمانية!
لقد دخلنا قائمة «غينيس» للأرقام القياسية أخذاً بالاعتبار كون المواطنين في حدود نصف المليون، وعدد السجناء السياسيين تجاوز 1600 حالياً، بينما دخل وخرج من السجن خلال العامين الماضين فقط آلاف المعتقلين السياسيين، بمن فيهم مئات الأطفال والشيوخ والنساء، وتجرى محاكمة المئات، وتصدر أحكام بالسجن حتى مدى الحياة، على مئات المواطنين لممارستهم حق التعبير. وجرى فصل أكثر من خمسة آلاف عامل وموظف بينهم أطباء ومهندسون وأكاديميون، لقيامهم بمهماتهم أو المشاركة في مسيرة أو إضراب، كما جرى فصل المئات من الطلبة من مختلف المراحل، من المدرسة الابتدائية حتى الجامعة، وجرى طرد أكثر من 120 رياضياً بمن فيهم أفراد في المنتخب الوطني لمختلف الألعاب.
وفي ظل هذا الوضع جرى تكريس سياسة التمييز الطائفي، وتهميش المعارضة بحيث تمثلت أغلبية الشعب كأقلية في البرلمان، وأضحينا نسير على خطى نظام الفصل العنصري البائد في جنوب إفريقيا.
هذا الواقع وغيره واقع مرير وموثق بالوقائع والأرقام، ووثقته اللجنة الوطنية المستقلة لتقصي الحقائق التي شكّلتها الدولة وتعهدت بقبول نتائج تحقيقها وتنفيذ توصياتها. ووثقته الأمم المتحدة بأجهزتها ومنها المفوضية السامية لحقوق الإنسان والمقرران الخاصان، وأكّدها مندوبو 44 دولة ديمقراطية من القارات الخمس والمنظمات الحقوقية الكبرى في العالم.
وفي المقابل تدهورت مكانة البحرين في المؤشرات العالمية حيث وصلت إلى المرتبة 85 في مؤشر مدركات الفساد، و140 في مؤشر الحريات الصحافية، و58 في مؤشر الديمقراطية، وحتى مؤشر الثقة الائتمانية تدنّى على مقياس موديز، والمثل يقول: «ليس كل ما يلمع ذهبا»، وليست واجهات الديمقراطية، مؤسسات ديمقراطية، فالعبرة بالنتيجة… والنتيجة هي أننا نعيش أزمة نظام وسياسة.