بي بي سي: علامات استفهام حول "الحياد الطبي" في البحرين
فوجئ عدد من العاملين في المجال الصحي بالبحرين بأنهم في مواجهة معركة بشأن "الحياد الطبي"، كجزء من تداعيات أحداث الربيع العربي في المملكة الخليجية.
نظريا، يعد الحياد الطبي مفهوما بسيطا: يجب السماح للأطباء برعاية المرضى والجرحى، ويجب تقديم العناية الصحية للجنود مهما كان انتماؤهم، وعلى جميع الأطراف الامتناع عن الاعتداء على المرافق الطبية والأفراد المسؤولين عن تقديم الرعاية الصحية.
ويمثل انتهاك هذه المبادئ جريمة بموجب اتفاقيات جنيف.
ولكن بالنسبة للأطباء الذين كانوا في وسط اضطرابات البحرين منذ فبراير/شباط 2011، تحولت هذه المبادئ البسيطة إلى موضوع معقد وأحيانا تسببت في حيرة مرعبة.
مستشفى في الجبهة
يُعد مجمع السليمانية الطبي جوهرة تاج نظام الرعاية الصحية بمملكة البحرين.
والبحرين دولة لا تضاهيها أخرى بين دول الخليج، فهناك أغلبية شيعية تحكمها عائلة مالكة تنتمي إلى المذهب السني.
ولطالما شكا شيعة البحرين من التفرقة في المعاملة وعدم كفاءة سياسات الإسكان وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، بالرغم من عائدات النفط الذي يعود اكتشافه لعام 1931.
لكن من بين المجالات التي لم تكن تشهد تمييزا يذكر ضد الشيعة في البحرين، المجال الطبي، وذلك حتى عام 2011. ومن الملاحظ أن معظم كبار الأطباء في مجمع السليمانية الطبي هم من شيعة البحرين.
هذا المجمع قريب جدا من دوار اللؤلؤة بالمنامة، وهو الميدان الذي تجمع فيه ناشطون سلميون يطالبون بإصلاحات ديمقراطية في الرابع عشر من فبراير / شباط عام 2011. وبالرغم من وجود بعض المحتجين السنة بين هؤلاء، إلا أن الغالبية العظمى كانت من الشيعة.
وحينما اقتحمت قوات الأمن لأول مرة الميدان في الساعات الأولى من صباح السابع عشر من فبراير/شباط، هرع الأطباء ومساعدوهم لتقديم المساعدة لأولئك الذين تعرضوا للرصاص أو الضرب أو الغاز المسيل للدموع.
ونظموا مظاهرة في أعقاب أنباء أشيعت عن منع السلطات نقل الجرحى للمجمع.
ولمدة عدة أسابيع سمحت السلطات للمحتجين بالتجمع من جديد في الميدان. وأنشأ أطباء المجمع خيمةً لتقديم الإسعافات الأولية للآلاف من الذين اعتصموا بهدف الضغط لتلبية مطالبهم.
وظهر بعض المسعفين في وسائل الإعلام الدولية ينتقدون الحكومة وقوات الأمن. أما الآخرون فقد ارتأوا أن يلوذوا بالصمت وتركز اهتمامهم على تقديم الإسعافات للمحتجين.
وبصرف النظر عما إذا كانوا تحدثوا لوسائل الإعلام أم لا، أصبح الأطباء ومساعدوهم وسط جدل سياسي يتصاعد صخبه.
وفي الرابع عشر من مارس/آذار 2011، عبرت قوات مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية جسر الملك فهد الذي يربط البحرين بشبه الجزيرة العربية.
فرضت الأحكام العسكرية وتمركزت القوات السعودية في المناطق الحيوية فيما أخلت الشرطة البحرينية ميدان اللؤلؤة باستعمال القوة.
وبعد يومين أرسلت السلطات قوات من جيش الدفاع البحريني إلى مجمع السليمانية. وفي ذات الوقت أعلنت الحكومة أنها اضطرت لاتخاذ هذا الإجراء لأن محتجين مسلحين يهددون طاقم المجمع ومن فيه من المرضى.
وفي أعقاب هذا، بدأت السلطات في اعتقال الأطباء والممرضين الشيعة في سلسلة من عمليات الدهم الليلية. ووردت أنباء عن تعذيب كثيرين منهم للتوقيع على اعترافات قبل إدانتهم أمام محاكم عسكرية وصدرت أحكام قضائية ضدهم بالسجن لفترات طويلة.
وتسببت معاملة الأطباء على هذا النحو في إثارة ردود فعل دولية غاضبة. كما أدت إلى فتح ملفات انتهاك حقوق الإنسان في المملكة.
وقال جيم ماكديرموت عضو الكونغرس الأمريكي لبي بي سي: "كان هذا هو الخط الأحمر بالنسبة لي. هذه الأنباء جعلتني أقف مشدوها."
وقدم ماكديرموت مشروع قانون للكونغرس في صيف 2011 باسم "قانون حماية الحياد الطبي"، ولكن القانون رفض في مجلس النواب.
وكان مشروع القانون ينص على أن تعد الخارجية الأمريكية قائمة بأسماء الدول التي تنتهك مبادئ الحياد الطبي وقطع المساعدات العسكرية عنها وحظر دخول مسؤوليها الأراضي الأمريكية.
وأضاف ماكديرموت "إن الحياد الطبي قيمة عالمية ولكن معظم الناس ومن بينهم سياسيون لا يعرفونها. من الصعب حمل الناس على أخذ هذا الموضوع بالجدية اللازمة".
ضغوط من أجل الإصلاح
لكن الضغوط الدولية التي تواصلت بفعل ما وقع للأطباء أجبرت بالفعل البحرين على اتخاذ بعض الإجراءات.
وفي يونيو/حزيران 2011 طلب ملك البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة من لجنة مستقلة التحقيق في الانتهاكات المزعومة.
ورأس اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق المحامي المصري شريف بسيوني، وسلمت لائحة الاتهام بعد خمسة أشهر.
ووثق تقرير بسيوني بالفعل العديد من الانتهاكات، بما فيها التعذيب المنهجي للمعتقلين على أيدي قوات الأمن، وأكد أن بعض المسعفين بالفعل تعرضوا لمعاملة سيئة في مراكز الاحتجاز وأُكرهوا على التوقيع على اعترافاتهم تحت الضغط.
وتسلم الملك حمد التقرير ووعد بإجراء إصلاحات كاملة.
وأشار تقرير تقصي الحقائق إلى أن بعض الأطباء بالفعل في مجمع السليمانية شاركوا في الأنشطة السياسية داخل وحول المجمع بشكل "يصعب أن يتسق مع ممارسة مسؤولياتهم الطبية على أكمل وجه".
ومع هذا، فإن التقرير قال إنه ما من دليل يثبت على الأطباء الاتهام الأكثر خطورة، وهو تخزين أسلحة في المجمع كجزء من مؤامرة للإطاحة بالنظام.
وأوضح التقرير أن قوات الأمن نفذت عمليات اعتقال غير قانونية داخل المجمع وهاجمت أعضاء الفريق الطبي، وأنه في السادس عشر من مارس / آذار 2011 سيطرت قوات الدفاع البحرينية على "كافة أرجاء المجمع الطبي ووضعت بعض الجرحى في الطابق السادس ليسهل التحفظ عليهم من جانب السلطات".
وعلى الرغم من أن اللجنة لم تتطرق مباشرة إلى موضوع الحياد الطبي إلا أن من بين الأدلة ما يشير بوضوح إلى أن هذه القيمة جرى انتهاكها، في بعض الحالات على أيدي الأطباء أنفسهم ولكن معظم الانتهاكات جرت على أيدي قوات الأمن التابعة للحكومة.
وأدانت محكمة عسكرية واحدا وثلاثين من أعضاء الطاقم الطبي بالمجمع الطبي قبل أن يجري تبرئة الجميع في وقت لاحق أمام محكمة مدنية.
"أمراض اجتماعية"
من بين أولئك الذين جرت تبرئتهم رولا الصفار وهي أستاذة التمريض ورئيس جمعية التمريض البحرينية التي ذهبت لمساعدة الجرحى في دوار اللؤلؤة وانتقدت علنا سيطرة قوات الدفاع البحرينية على مجمع السليمانية.
ولم تكن الصفار تعمل في مجمع السليمانية ولكن جرى إلقاء القبض عليها في الرابع من أبريل/نيسان 2011، وظلت رهن الاعتقال خمسة أشهر. وقالت إنها تعرضت للتعذيب والتهديد بالاغتصاب.
وقضت محكمة عسكرية بسجنها خمسة عشر عاما. لكن السلطات أفرجت عن رولا في وقت لاحق ثم تمت تبرئتها العام الماضي.
وتقول الصفار لبي بي سي: "ما يزال ثلاثة أطباء في السجن وهناك ستة لم يتمكنوا من العودة لممارسة المهنة بعد أن أمضوا فترة محكوميتهم في السجن".
ولم يجر السماح لرولا هي الأخرى بالعودة إلى ممارسة مهنة التدريس، بالرغم من حصولها على البراءة.
وأضافت: "أناشد حكومة البحرين وحكومات العالم احترام مبادئ الحياد الطبي والإفراج عن الأطباء والممرضين الذين ما زالوا يقبعون في السجن لمجرد أدائهم وظيفتهم".
وزارت الصفار واشنطن مؤخرا حيث وجهت الدعوة لجعل اليوم الذي سيطرت قوات الأمن البحرينية فيه على مجمع السليمانية يوما عالميا "للحياد الطبي".
والتقت عددا من السياسيين الأمريكيين بينهم ماكديرموت. وفي أكتوبر/تشرين أول عام 2012 كتب ماكديرموت خطابا للعاهل البحرين وقعه أربعة وعشرون من الديمقراطيين والجمهوريين.
ودعت الرسالة الملك حمد للعفو عن الأطباء الذين جرت إدانتهم بحيازة السلاح والتحريض والمشاركة في مظاهرات غير قانونية.
وتشير الرسالة إلى أنه "بناء على حوارات مع المتهمين فضلا عن محققين مستقلين، فإننا نعتقد أنه جرى استهداف هؤلاء ليس بسبب ممارستهم نشاطا إجراميا، ولكن لأنهم كانوا أول الشهود على الإصابات التي نتجت عن استخدام الأمن البحريني القوة المفرطة".
ماكديرموت، الطبيب النفسي العسكري الأمريكي السابق قال لبي بي سي "أنا طبيب، وقد تدربت على رعاية المرضى. أنا لا أسأل عن معتقدات الشخص السياسية أو مع أي فريق هو. إنني أعالج المريض. وهذا ما فعله هؤلاء الأطباء ومساعدوهم".
وأدان ماكديرموت طريقة تعامل الحكومة البحرينية مع الأطباء، وأضاف "حينما تفقد الحياد الطبي، كما فعلت البحرين، فإن المجتمع يفقد أخلاقه الرفيعة. إنه دليل على أن المجتمع مريض جدا".
ولم يتسن الاتصال بأي من أعضاء الطاقم الطبي لمجمع السليمانية ولا بوزارة الصحة البحرينية للتعليق.
05/05/2013 م