عبد الاله بلقزيز
“يعيش” المغرب العربي، في هذه الأيام، أجواء الذكرى الخامسة والخمسين لميلاد فكرة المغرب العربي ميلادَها المتجدّد، بمناسبة انعقاد مؤتمر طنجة (1958) للحركات الوطنية الثلاث (“حزب الاستقلال”، “حزب الدستور”، “جبهة التحرير الوطني”)، الذي أعاد إطلاق الفكرة، من جديد، بعد استقلال قطرين منه (المغرب، تونس)، ونجاح الثورة الجزائرية في التقدم العسكري، على جبهة تحرّرها، سعياً إلى إحراز استقلالها الوطني .
قلنا إن الفكرة وُلدت في “مؤتمر طنجة” ولادة متجددة، ذلك أن ولادتها السياسية الأولى كانت في القاهرة قبل أحد عشر عاماً من ذلك التاريخ، منذ تأسيس الأمير المجاهد محمد بن عبدالكريم الخطابي – قائد الثورة الريفية – وجَمْعٍ من قادة الحركات الوطنية “مكتب المغرب العربي” (1947)، الذي كان الخطابي رئيساً له، بعد تجربة انفرطت، قبل ذلك بقليل، هي تأسيس “لجنة تحرير المغرب العربي” في القاهرة، بسبب خلافات بين محمد بن عبدالكريم الخطابي والزعيم التونسي الراحل الحبيب بورقيبة . ولقد وفّرت رعاية الخطابي للفكرة، وقيادته مؤسستَها في القاهرة، شرعية إضافية لها بسبب مكانته المعنوية العالية، ورمزيته في الوجدان الجماعي مغربياً، وعربياً، وعالمياً، كقائد لواحدة من أكبر ثورات العصر ضد الاستعمار .
كانت فكرة المغرب العربي، في وعي الخطابي ورفاقه، تعني التحرر الشامل، والمتزامن، للأقطار الثلاثة (المغرب، الجزائر، تونس)، وقيام الوحدة السياسية بينها . جرت الرياح بغير ما اشتهت سفن قائد الثورة: تفاوضت تونس والمغرب على استقلالهما بعد أكثر من عام على انطلاق الثورة المسلّحة في الجزائر، ولم تحصل الأخيرة على حريتها إلا بعد استقلال المغرب وتونس بسنوات ست، وبعد كفاح عسكري مكلّف، ومفاوضات شاقة في “إيفيان” . وحين انعقد “مؤتمر طنجة”، في العام ،1958 كان يبغي، في جملة ما تَغَياهُ، ترميم الثقة المتصدّعة بين الحركات الوطنية الثلاث . أما الخطابي فظل وحده وفياً لموقفه، إلى الحد الذي اعتذر فيه عن عدم العودة إلى الوطن المستقلّ لأن التحرير لم يكن شاملاً .
لم تأخذ فكرة وحدة المغرب العربي مسارها المفترض بعد استقلال الجزائر (1962)، وظلت العلاقات البينية – منذ حرب الرمال بين المغرب والجزائر (1963) – ملبدة، وتشوبها مشاعر عدم الثقة . أما “اللجنة الدائمة للمغرب العربي” فظلت جسماً مؤسسياً شكلياً يحمل عنواناً من دون نص . ما إن دخل المغرب في مسلسل استعادة أراضيه الصحراوية المحتلة من قبل إسبانيا، وطرح ذلك رسمياً في العام ،1974 ثم طلب استشارة رسمية من “محكمة العدل الدولية” في لاهاي، وحصل على فتوى إيجابية منها، ونظّم مسيرة شعبية إلى الصحراء (المسيرة الخضراء)، شارك فيها ثلاثمئة وخمسون ألف مواطن (1975)، بعيد الإعلان عن اعتزام إسبانيا الجلاء العسكري عنها، حتى زادت الأجواء توتراً في المغرب العربي، فالجزائر ساندت جبهة “بوليساريو” من جهتها، وأيدت حق تقرير مصير “الشعب الصحراوي”، فيما اعتبر المغرب ذلك موقفاً مناوئاً لمصلحة فكرة الانفصال وتجزئة المغرب . ولقد كادت فكرة المغرب العربي تمحي من الوجود طوال الفترة الفاصلة بين العام 1973 والعام 1987 .
أمكن للانفراج الذي شهدته العلاقات المغربية – الجزائرية، في عهد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، أن تقود إلى تفاهم مشترك على تحييد الخلاف على الصحراء المغربية من العلاقات بين الدولتين . وأمكن ذلك أن يفتح الطريق أمام تأسيس “اتحاد المغرب العربي” في 17 فبراير/شباط 1989 . لكن الدينامية، التي أطلقها الاتحاد، سرعان ما ستخبو بعد قضية لوكري، وفرض الحصار على ليبيا في العام ،1993 وبعد انهيار العلاقات المغربية – الجزائرية، عقب العملية الإرهابية في فندق “أطلس أسني” بمدينة مراكش، وإغلاق الجزائر الحدود بين البلدين . ومن حينها يعيش “اتحاد المغرب العربي” حالة موت سريري، وتعيش فكرة المغرب العربي أفولاً فاقم منه جنوح دوله لوهم البحث عن “شراكات” بديلة مع أوروبا في إطار مشروع النظام المتوسطي .
اليوم، وبعد ما يُسمّى في القاموس الأمريكي ب “الربيع العربي”، ووصول نخب جديدة إلى السلطة في ثلاثة من أقطار المغرب العربي، وبعد اجتماعات خجولة لوزراء خارجية “اتحاد المغرب العربي” لبعث الروح في الاتحاد ومؤسساته، يُطْرح السؤال من جديد عن مستقبل الفكرة وإطارها الإقليمي . ولعل أكثر ما يحمل على طرحه من جديد أن تجربة التعثر والفشل التي عاناها “اتحاد المغرب العربي” في السابق، وقع تفسيرها عند كثيرين بعدم وجود تجانس، في التكوين الأيديولوجي والسياسي، لدى النخب الحاكمة والشريكة في الاتحاد، حيث التضارب كبير بين خيارات ليبرالية (المغرب، تونس)، و”اشتراكية” دولتية (الجزائر)، وشعبوية فوضوية (ليبيا) . وعلى ذلك، فإن وصول نخب إسلامية متجانسة فكرياً وسياسياً (أو هكذا يفترض) إلى السلطة، وتكوين حكومات منها في تونس وليبيا والمغرب، قد يشجع على الاعتقاد بأن إمكانات إحياء الفكرة ومؤسساتها قابلة للصيرورة واقعاً من جديد، أو هذا – على الأقل – ما قد يوحي به تجانسها كنخب . والاحتمال هذا نظريّ حتى الآن، ويتوقف إمكانه على مدى تشبّع هذه النخب بالفكرة الوحدوية، وهو ما لم يقم عليه دليل، حتى الآن، من سياساتها .
إذا لم يكن في وسع الإسلاميين أن ينجزوا أي شيء مما وعدوا ناخبيهم به إلا إعادة تفعيل “اتحاد المغرب العربي”، فسيكونون – قطعاً – قد أنجزوا شيئاً ذا قيمة يُذكر لهم ويُذكرون به .