وليد الزبيدي
يروي الأستاذ الدكتور حارث عبود مدير إذاعة بغداد السابق وأستاذ الإعلام المعروف، أنه في اليوم اللاحق لدخول القوات الأميركية مدينة بغداد، وتحديدا في العاشر من ابريل عام 2003، قد ذهب إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون بمنطقة الصالحية من جانب الكرخ ببغداد، وشاهد اثار القصف والدمار الذي خلفته
صواريخ وقنابل كثيرة ألقتها الطائرات الأميركية على المبنى، واثناء تجواله بين الحطام، وكان على مقربة من مكتبة الإذاعة والتلفزيون الضخمة، حيث كان اللصوص والغرباء ينهبون موجودات الإذاعة والتلفزيون، وإذا برجل في الأربعينيات من عمره يتقدم إلى د. حارث عبود، ويلقي عليه السلام والتحية وثمة غصة في داخله تكشف عنها حشرجات صوته، قال له انا أعرفك وانت لا تعرفني، وأنا هنا جئت لأحمي موجودات المكتبة الثرة، أردف بحماس، سأعيدها في الوقت المناسب، وستكون في مكان امن.
نزلت تلك الكلمات على الدكتور عبود مثل ماء بارد في صيف قائظ، بعد أن يئس من فقدان وضياع هذا التراث الغني، من الكتب والاسطوانات والمقابلات الفكرية والبرامج الثقافية والخطب السياسية، التي تؤرخ لتاريخ الدولة العراقية الحديثة منذ بداية ثلاثينيات القرن الماضي، وقبل أن يثني على خطوته ويشكره على مبادرته، انهال عليهم صوت أجش، التفت الرجلان وإذا بشخص غريب لا يعرفانه، تبين لا حقا انه من مجاميع الغرباء، الذين دخلوا في ذلك اليوم للعبث بكل مصادر الثقافة والتاريخ والحضارة والتراث بالعراق.
قال الغريب بلغة زاجرة: هذه المكتبة ليست للخزن وغير مسموح لكائن من يكون الاحتفاظ بها.
صمت قليلا، وهو يحدق بتقاسيم الوجوه، ثم أردف بلغة جافة: هذه المكتبة مصيرها الحرق، وسرعان ما اكتشف الرجل الحريص على العراق وتاريخه ومكتنزاته الحضارية والفكرية والمعرفية، كذلك الدكتور حارث عبود، أن الأمر أكثر من مصادفة، وأن البرنامج أوسع، وأن الأدوات قد تقاسمت أدوارها في عملية التخريب الممنهجة والدقيقة.
انتهى الأمر بمكتبة الإذاعة والتلفزيون العراقية إلى الحرق، كما نهب الغرباء الكثير منها، ويعود تاريخ إذاعة بغداد إلى عام 1936 م، وهي ثاني إذاعة عربية بعد إذاعة مصر، وانطلقت بعد اربع سنوات من نيل العراق استقلاله من الانتداب البريطاني عام 1932م، أما مكتبة تلفزيون العراق فتعود إلى بداية تأسيس تلفزيون العراق عام 1956، وهو اول تلفزيون في الدول العربية.
لا يتذكر الدكتور حارث عبود اسم الشخص الذي أراد إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مكتبة الإذاعة، التي تزيد عدد الأشرطة المسجلة فيها عن المائة الف، والاف الكتب والاسطوانات الاخرى، لكنه يتذكر تقاسيم وجه الرجل الغريب الحادة الحاقدة، وما زال صدى كلماته ترن في أذنيه.
من ذاكرة الدكتور عبود، أن إذاعة وتلفزيون العراق كانت من بين الأهداف الأولى للقصف الأميركي في حرب عام 1991، فكان نصيبها الكثير من القنابل والصواريخ، التي استهدفت الكثير من الأهداف العراقية في الساعة الثانية والنصف من ليلة الحرب (16-1-1991) خلال الموجة الاولى من القصف، كما تواصل استهدافها طيلة ايام الحرب، كما أنها كانت من أول الأهداف في حرب عام 2003، ونالت نصيبها من القنابل والصواريخ الأميركية.
في أكثر من محاضرة له، يردد عبود، أنهم يحتفلون بذكرى تأسيس إذاعة بغداد، بعد أن قتلوا هذه الإذاعة التي خرج من استوديوهاتها الكثير من المطربين والملحنين، واستمع العراقيون والعرب إلى الاف البرامج الثقافية والفكرية، إضافة إلى ذاكرة العراق السياسية من عهد الملك فيصل الثاني مرورا بالملك غازي، الذي كان مولعا بالإذاعة وأسس إذاعة قصر الزهور، مرورا بقادة العراق الاخرين ومفكريه ومثقفيه حتى عام 2003.
لم تكن مصادفة وجود الرجل الغريب في مبنى الإذاعة والتلفزيون مع وجود الدبابات الأميركية، ولم تكن مصادفة ايضا أن توجه دبابة أميركية قذيفة لتفتح باب المتحف العراقي لتسهل دخول الغرباء واللصوص، ولم تكن مصادفة وجود أعداد من الغرباء في الوقت نفسهه يحرقون موجودات المكتبة الوطنية في الباب المعظم في بغداد ومعها دار الوثائق والمخطوطات.