اسماعيل ابو البندورة
يمكننا القول وبعد مرور عشرة اعوام على احتلال العراق أن المشروع الذي حلمت به امريكا وخططت له ودبّرته عام 2003 قد سقط تماما سواء في عناوينه أو في مفرداته واصبح جزءا من التاريخ الأسود لهذه الدولة . وثبت بالقطع أن احتلال الدول والاعتداء على التاريخ الحقيقي الاستقلالي للشعوب وتصنيع الوقائع السياسية الجديدة ، وتفكيك واعادة بناء الدول هي مشروع استعماري بائس في كل الاحوال ، أو هو عدوان محض مناف للعقل والعقلانية وضد انساني ، وسبّة ولعنة على من قام ويقوم به ، لابل هو الابادة الجماعية المتعمّدة بأوحش معانيها ومداليلها .
ويمكننا القول ايضا ' وبكثير من الثقة والاعتزاز ' أنه لولا مشروع المقاومة الباسلة المعاكس ، وهمّة الشعب العربي في العراق ، ووطنيته الفائرة ، وصموده وصبره وتضحياته طوال الاعوام العشرة السابقة ، لاستطاع هذا المشروع اختراق الامة بأكملها وتبديد صفوفها والحاقها بالمشروع الاستعماري وفق صياغاته الجديدة وتصوراته المتوحشة في الهيمنة الكاملة على المنطقة .
لاسياسات ولا اخلاقيات قديمة وحديثة يمكن أن تبرر مثل هذا العدوان الوحشي الجائر الذي حدث عام 2003 وقبله ، ولا شرائع أو مبررات يمكن أن تفسر مثل هذه الابادة الجماعية ، وخصوصا بعد أن تبدّت عملية الغزو بأكملها وفي مضمونها وغاياتها البعيدة شرا محضا غايته القتل والتشريد والتبديد وانتهاك حرية الشعوب والاعتداء على مشاريعها القومية والانسانية . ولا الادعاءات والديموقراطيات المزعومة والمفبركة التي جاء بها العدوان يمكن أن تعطي الحق لدولة في افناء شعب آمن واسقاط نظام وطني شرعي حضاري ، قضى على الامية ونهض بشعبه الى مصاف الدول المتقدمة وارتقى به في كافة مجالات التقدم والحداثة .
اذن ما هو العقل ' أو اللاعقل' الذي دفع بهؤلاء البرابرة الى احتلال هذا البلد الآمن الكريم ؟ وبأي ادعاءات وافتراءات برروا لأنفسهم هذه الجريمة الكبرى ؟ مع أننا وبالرجوع الى التاريخ الاستعماري نجد صفحات كثيرة من هذه الجرائم لا بل ان التاريخ الاستعماري برمته قام على هذا العقل العدواني المتوحش ، ولذا فلا عجب أن جاء هؤلاء بأشكال ومبررات مختلفة واخترقوا هدأة وحرية واستقلال هذا الشعب العراقي العريق ، واعملوا فيه وفي كل الشعوب المقهورة ماضيا وحاضرا ، مواهبهم الابادية والساديّة ، وحاولوا افراغ هذه الشعوب من كل مااكتنزته من قيم ونزعات الحرية والسلام . انه فكر الغزاة ، وفكر شريعة الغاب الذي واجهناه في العراق ، ولانزال نواجهه حتى اللحظة ، والا بماذا نفسر هذا الاندغام والتهالك الامريكي على تزيين الجريمة العنصرية في فلسطين وحماية روادها الصهاينة وغض الطرف عن الجرائم الصهيونية العنصرية المتفاقمة وتسميتها بالدفاع عن النفس ؟
لا تفسير لجريمة الاستعمار والغزو العسكري الا تقصّد الجريمة وتجديد اشكالها ومعانيها اللاانسانية ، ولا تفسير الا هذا الافناء وهذه الابادة المتواصلة ، انه الشرّ الاستعماري وهو يكشر عن أنيابه ويتعاظم ، ويفصح عن معناه الوحشي المتوارث !
في العراق أنشأوا بغزوتهم الابادية الفراغ والانقطاع التاريخي بأشد وأسوأ معانيه ، وولدوا أشكالا وهياكل سياسية عميلة لم تستطع أن تزيّن أفعالهم ، أو أن تبرر غزوهم ، أو تكون انموذجا وتجسيدا لادعاءاتهم ومزاعمهم ، وبدا العراق منذ عام 2003 قفرا موحشا لا ماء فيه ولا نخيل ، وانما عباءات طائفية ، وفراغات ولطم وشتم وقتل وجوع واستطالات استعمارية . أنشأوا عراقا جديدا مصنعا خارج سياقات الامة وأطرها ، عراقا هجينا بلا معنى تاريخي أو حضاري فيه فساد وسرّاق واوساخ تملأ الساحات ، وفيه عتمة وشوارع مهجورة ، وفيه خوف ورماد وبلاء وابتلاء . هذا هو عراقهم الذي جاؤوا من اجله ، وهذا هو مشروعهم الانتقامي المخبأ الذي لم يعرف سابقا لدى السذج والمارقين ، أو أنه المشروع الخبيث الذي تقنع بأكذوبة القضاء على 'الدكتاتورية واسلحة الدمار الشامل' فجاء بدكتاتورية طائفية عمياء لاعلاقة لها بالعصر والحداثة ولا حدود لهمجيتها وانتهاكها لحقوق الانسان .
لكن الذي بقي في العراق رغما عنهم وعن الفراغ والانقطاع الذي استحدثوه، ورغما عن امتداداتهم ومكبرات صوتهم هو المقاومة العراقية الباسلة وفكرها ورجالها ومشروعها الوطني – القومي الراسخ ، وبقي راسخا وشامخا 'عزة الدوري ومعه أبطال المقاومة من أبناء العراق ' وضريح الشهيد الحاث على مواصلة المقاومة والتحرير ، ومعانيه الاستشهادية الرمزية في ارض العراق ' ، وبقيت هذه العروبة الراسخة المتواصلة وهذه الروح الوطنية المتعاظمة ، بقي حراس النهضة والنخيل ، وبقي هذا الصوت العالي المنادي بالجهاد والتحرير ، وبقي هؤلاء الرجال الرجال الذين يقفون الآن في كل ساحات العراق يواجهون الحكومة الطائفية العميلة ، ويواجهون العملاء من كل لون وملّة ، ويسقطون محاولات الشيطان الأقذر رديف الشيطان الاكبر في التسلل الى بلدهم وارواحهم ، انهم يبدأون الصفحة النضالية الجديدة في حياة العراق وبناء مستقبله ، ويستأنفون فعل المقاومة العسكرية الظافرة في توليد المشروع الوطني العراقي .
انهم يصنعون التاريخ الجديد للعراق ، والحكومة الطائفية العميلة تتراجع أمام صوتهم واصرارهم ، انها تترنح وتتهاوى الآن تحت مطرقتهم ولا مفر امامها الا الانهزام ، فالذي صنعه الغزو زورا وتلفيقا عن طريق القوة الوحشية سواء كان بانشاء حكومات الدمى ، أو الوقائع السياسية العابرة والقشرية سوف يتهاوى أمام هذه الاندفاعة الظافرة لشعب العراق ، ولا بد في النهاية مما ليس منه بد : حرية العراق وعروبته وانبعاثه الجديد ، وكل ما هو غير ذلك سائر الى زوال ولو كره العملاء والسائرون في ركب الاستعمار .