عوني صادق
عندما فكر الاستعماريون الأوروبيون في تأسيس (دولة “إسرائيل”) وقرروا أن تكون في فلسطين، كان لهم غرضان: التخلص من اليهود وخدمة مصالحهم في المنطقة العربية . ولم يقلقهم أن العقبة التي سيواجهونها، قبل وبعد تنفيذهم للمشروع، ستكون فلسطين وأهلها، بل كانوا يعرفون، منذ البداية، أن المشكلة الحقيقية ستكون في حقيقة أن فلسطين جزء من منطقة عربية، وأن أهلها جزء من أمة عربية (غير متبلورة سياسياً، ولكن موجودة موضوعياً) . لذلك جاء التخطيط لتأسيس المشروع الاستعماري آخذاً في الاعتبار هذه الحقيقة، سواء للحاضر أم المستقبل، ولذلك أيضاً كان يجب أن تسبق (اتفاقية سايكس- بيكو) البريطانية – الفرنسية ظهور (وعد بلفور) البريطاني .
ويعرف الجميع كيف تم التمهيد لإقامة (دولة “إسرائيل”) وفلسطين في عهدة الانتداب البريطاني، إلى أن نشبت حرب ،1948 ودور الجيوش العربية فيها، والتي انتهت بنكبة الفلسطينيين وقيام الدولة اليهودية على أنقاضهم . ومنذ ذلك الوقت تم تبرير كل الاعتداءات والحروب “الإسرائيلية”، بدعم أمريكي وغربي، بمزاعم “الدفاع عن النفس” ضد “محيط عربي معاد يريد القضاء على “إسرائيل” ويرفض الاعتراف بحقها في الوجود” . وفي الأثناء، وبالرغم من الدور العربي المشبوه الذي كان في حرب 1948 وما بعدها، ظل الفلسطينيون مؤمنين ومقتنعين أنهم لن يستطيعوا تحرير أرضهم بقوتهم الذاتية، وإنما يمكن ذلك بالقوة العربية وبوصفهم جزءاً متقدماً من هذه القوة . وجاءت أول وثيقة سياسية فلسطينية بعد النكبة لتوثق هذه القناعة من خلال “الميثاق الوطني” لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي أعلن عن تأسيسها في مؤتمر القمة العربية العام ،1964 وبعد عشر سنوات من ذلك التاريخ، في العام ،1974 بعد عام من حرب اكتوبر والهزيمة السياسية التي حملتها، صار الاعتراف بمنظمة التحرير “ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني”، وكان ذلك بداية “فك الارتباط” بين القضية الفلسطينية والأنظمة العربية، ثم كان الاجتياح “الإسرائيلي” للبنان وخروج المقاومة الفلسطينية منه، ثم دخول العراق إلى الكويت وحرب (عاصفة الصحراء) عليه وحصاره وما أصاب الوضع العربي كنتيجة، حتى انتهى الأمر في إعلان (اتفاق أوسلو) العام 1993 الذي حول القضية القومية إلى نزاع ثنائي .
كل تلك التطورات لم تغير شيئاً في المصالح الاستعمارية للغرب في المنطقة العربية، كما لم تغير في “الوظيفة” التي أوجد الغرب “إسرائيل” من أجلها، حتى بعد أن تبين أنها لم تعد قادرة على القيام بها، ما اضطر الولايات المتحدة (والغرب) أن تدافع عن مصالحها بنفسها وبجيوشها وبشكل مباشر في العام 2003 من خلال غزو العراق واحتلاله . لقد أظهرت التطورات منذ 1917 وحتى اليوم المعنى والغرض الاستعماريين لإقامة “دولة إسرائيل”، لكنه لم ينفع في جعل المسؤولين العرب يقدمون على ما يحمي وجودهم، لا كأمة ولا ككيانات، وبدلاً من استغلال الوقت والثروات والإمكانات البشرية لوضع حد للتوسع “الإسرائيلي” والتسلط الأمريكي والغربي، أهدروا ذلك كله في تجهيل وإفقار واستعباد الشعوب العربية .
اليوم تصبح القضية الفلسطينية مهددة بالضياع الكامل أكثر من أي وقت مضى، بسبب ما أوصل (اتفاق أوسلو) الفلسطينيين إليه، ولكن أساساً بسبب ما وصلت إليه الحالة العربية الراهنة من ضعف وتفكك وتبعية . لقد تحركت الشعوب العربية ضد حكامها الفاسدين وضد أنظمتها الفاسدة، لكنها لم تستطع أن تضع لحراكاتها نهايات سعيدة، والوضع اليوم لا يبشر بخير، في المدى القريب على الأقل . هذه “الحالة” أعطت القيادة الصهيونية كل ما تتمنى لتخرج كل مخططاتها من الأدراج إلى العلن وحيز التنفيذ، فلسطينياً وعربياً، ولا تزال حجتها القديمة والوحيدة قيد التفعيل، وهي التخويف من “المحيط العربي المعادي”، والتهديدات التي تلحق بها منه، خصوصاً بعد التغيرات الحاصلة فيه، بالرغم مما يعتري هذه الحجة من زيف يعترف به حتى بعض “الإسرائيليين” .
وقد لفت نظري مقال كتبه رؤوبين بدهستور في صحيفة (هآرتس- 3/3/2013)، وجاء في معرض التعليق على المطالبة بتخفيض “ميزانية الدفاع”، وأعتذر سلفاً عن طول الاقتباس الذي لا بد منه لأهميته، يقول بدهستور: يبينون في الجيش “الإسرائيلي” أن تقليص ميزانية الدفاع أمر خطير لأنه سيضر ضرراً شديداً بالاستعداد للتهديدات المتزايدة . لكن حتى الفحص السطحي يبين أنه يمكن ويجب تقليص ميزانية الدفاع، وأن ذلك لن يضر باستعداد الجيش لتهديدات المستقبل” . وبعد أن يتحدث عن الترسانة “الإسرائيلية” من الدبابات والمدرعات، يتوقف عند نتائج “الربيع العربي” وأوضاع الجيوش العربية الرئيسية، فيقول: “لم تعد احتمالات معارك المدرعات كتلك التي ميزت حرب (الأيام الستة) وحرب (يوم الغفران) موجودة . فالجيش السوري يسحق ولم يعد قوة قتالية يجب أخذها في الحسبان . وسيكون الجيش المصري مشغولاً في السنين القادمة بشؤون الدولة الداخلية، واحتمالات أن تبادر مصر إلى حرب أقل من ضعيفة . . . ولم يعد الجيش العراقي منذ زمن يشكل تهديداً، وانقضت (الجبهة الشرقية) واختفت” . ويختم بالقول: “إن احتمال قيام حرب أخرى لجيوش في المنطقة قد طوي تماماً تقريبا”!
هذه هي الصورة التي يراها الصهاينة للحالة العربية الراهنة، ويراها، ولا شك، حلفاؤها الغربيون الذين ما زال بعض الفلسطينيين والعرب يراهنون على مساعداتهم . وهي حالة، لشديد الأسف، ليست بعيدة عن الحقيقة وواقع الحال، إن لم تكن مطابقة لهما . . فما العمل؟