عوني صادق
مع بدء العدوان “الإسرائيلي” الأخير على قطاع غزة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عبر عملية “عمود السحاب”، بدأ يسمع وقع الأرجل في أنحاء كثيرة من الضفة الغربية المحتلة، تضامناً مع القطاع واحتجاجاً على العدوان . واستمرت الحركة بعد وقف إطلاق النار، واتسعت مع قرية
“باب الشمس” و”باب الكرامة”، ومتزامنة مع اعتصامات السجناء وإضرابهم عن الطعام . وبينما زاد تدهور الوضع الاقتصادي معاناة الجماهير الفقيرة، زاد استمرار الانقسام والخلافات (بعد ما بدا من تحسن في العلاقات الفتحاوية- الحمساوية بعد الإنجاز العسكري في غزة، والإنجاز الدبلوماسي في الأمم المتحدة) من حالة الإحباط في الشارع الفلسطيني . وأخيراً، جاء استشهاد الأسير عرفات جرادات تحت التعذيب الذي تعرض له في السجن ليزيد من وتيرة ومستوى المواجهات مع المستوطنين وجنود الاحتلال، ما فرض التساؤل عما إذا كانت ساعة اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة قد أزفت، أم أن الأمر لا يزيد على “فورة غضب” ستمر وتنتهي؟
وبالتوازي مع تلك التطورات، كان القادة الأمنيون والعسكريون “الإسرائيليون”، وبعض السياسيين أيضاً، قد بدأوا يحذرون من سكوت حكومة بنيامين نتنياهو عن تصرفات المستوطنين واستفزازاتهم للفلسطينيين، من جهة، ومن الجمود السياسي الذي ساد فترة حكومة نتنياهو من جهة أخرى، ويعبرون عن خشيتهم من أن يؤدي ذلك إلى اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة يرون أسبابها بالمقارنة مع الانتفاضتين السابقتين في العامين 1987 و،2000 متوفرة أكثر . ظهر ذلك جلياً في تصريحات وأحاديث أدلوا بها لوسائل الإعلام “الإسرائيلية”، ومن بين هؤلاء: بني غينتس رئيس الأركان، ويوفال ديسكين رئيس “الشاباك” السابق، وبنيامين بن أليعازر عضو الكنيست عن “حزب العمل” والوزير السابق، وآفي ديختر وزير الأمن الداخلي في حكومة نتنياهو، وآخرون.
ويبدو أن الجميع، فلسطينيين (باستثناء السلطة ورئيسها) وصهاينة، متفقون على أن عوامل وأسباب الانتفاضة موجودة ومتوفرة، وربما أكثر مما تحتاجه الانتفاضة لتندلع، بل إن أحد كبار ضباط القيادة في ما تسمى “المنطقة الوسطى”، يانيف إلالوف، قال أمام مجموعة من جنود الاحتياط: “نحن لسنا على أبواب انتفاضة ثالثة، بل نحن في أوجها” فعمليات مصادرة الأرض، والتوسع الاستيطاني السريع وغير المسبوق في السنة الأخيرة، وإجراءات تهويد القدس والعبث وتدنيس المقدسات الإسلامية والمسيحية، وعمليات الاعتقال وإعادة الاعتقال المستمرة، والإساءة والتنكيل بالأسرى، وتدهور الوضع الاقتصادي وسوء ظروف المعيشة للمواطن الفلسطيني التي تزداد سوءاً، وأخيراً انسداد الأفق السياسي، كلها أسباب تكفي لإشعال أكثر من انتفاضة ضد الاحتلال والمتعاونين معه أو الساكتين على احتلاله .
إزاء ذلك، نجد الموقف “الإسرائيلي” الرسمي، كما يتبدى من موقف رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، يتراوح بين الرشوة والتهديد، فمن جهة، يتم الإفراج عن جزء من الضرائب المحجوزة، وتعطى وعود بالإفراج عن بعض المعتقلين . ومن جهة أخرى يطلب من رئيس السلطة أن يعمل لتهدئة الأمور، وإلا فإنها ستنقلب عليه. أما الموقف “الإسرائيلي” غير الرسمي، كما يعرضة بعض السياسيين وأصحاب الرأي، فهو أيضاً يتراوح بين التهوين مما يجري واعتباره مجرد “شغب” روتيني سيمر، مع مطالبة الحكومة بإطلاق أيدي الجيش بقمع المشاغبين حتى لا يحسبون السكوت عنهم ضعفاً فيتحول الشغب إلى انتفاضة، وبين التحذير من استمرار الجمود والتمسك بسياسات نتنياهو، التي لا تهتم إلا بالحفاظ على “الوضع الراهن”، ومطالبة الحكومة بالتقدم على طريق استئناف المفاوضات، وهؤلاء ينتظرون زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما ويعولون عليها أن تحرك مياه نتنياهو الراكدة
أما الموقف الفلسطيني الرسمي، فيتراوح بين تحميل الحكومة “الإسرائيلية” مسؤولية ما يجري، انطلاقا من سياساتها الاستيطانية والتهويدية وتصرفاتها القمعية والعنصرية، وعدم التزامها بتنفيذ “حل الدولتين”، وبين اتهامها بتدبير “مؤامرة” مفادها التشجيع وجرّ الفلسطينيين إلى انتفاضة لتبرر ما تستعد له من قتل الفلسطينيين، في الوقت نفسه، تستبعد السلطة اندلاع انتفاضة، وتؤكد أنها لن تسمح بحدوث ذلك، أما الموقف الشعبي الفلسطيني، سواء ما تعبر عنه مواقف وتصريحات الفصائل، خصوصاً حركة (حماس)، أو ما يعبر عنه الحراك الشعبي في الشوارع، فهو مع اندلاع انتفاضة، لأنه يراها الرد الطبيعي الذي لا رد غيره على سياسات وجرائم الاحتلال .
والخلاصة، ليست المسألة في أن تندلع الانتفاضة أو لا تندلع، فالانتفاضات الشعبية تندلع، لا تنتظر إذنا من أحد . وإذا كان لا أحد يعرف على وجه الدقة متى أو كيف ستندلع، فإنها يمكن أن تندلع في أية لحظة ولأي سبب، والأسباب، كما قلنا، كثيرة . لكن المسألة فيما إذا كانت قوى الشعب الفلسطيني في الضفة جاهزة وعلى استعداد لتحمل تبعات ونتائج هذه الانتفاضة، لأنها هي من سيواجه الآلة العسكرية “الإسرائيلية” الباطشة .
صحيح أن انفجار الموقف واندلاع الانتفاضة لا يقومان على حساب عقلي لاحتمالاتها ونتائجها، لكن يجب أن يكون هناك من يقوم بهذا الحساب، ويستعد للمتوقع من الاحتمالات والنتائج . إن تجربة الانتفاضتين السابقتين، وما تركتها من آثار مادية ومعنوية وسياسية، وكذلك سياسات القيادة السياسية وما نجم عنها من تنازلات، خصوصاً ذلك “التعاون”، في إطار “التنسيق الأمني” مع الأجهزة الأمنية للاحتلال، وأيضاً الانقسام الحاصل، وما تركه في نفوس الجماهير من إحباطات، خلقت حالة من عدم اليقين وجعلتها الحالة السائدة، مع ذلك فإنه مطلوب من الجميع، في الضفة والقطاع، أن يستعدوا لتحمل مسؤولياتهم منذ الآن، كأن الانتفاضة قد اندلعت بالفعل، حتى لا تتحول إلى كارثة حقيقية شاملة .